إسرائيل الكبرى، أميركا الصغرى … والثورة العربية

ألقى أوباما خطاباً حول المنطقة العربية وثوراتها، ذاكراً ضرورة عودة إسرائيل إلى حدود 1967 (مع تبادل أراض بالتفاوض). زجره نتنياهو، ثم ألقى خطاباً أمام الكونغرس. صفق له الحضور وقوفاً، مرات عدة، كما يفعل البرلمانيون العرب تجاه رئيسهم.

يحتار المرء أيهما رئيس الولايات المتحدة، أوباما أم نتنياهو؟ لم تستطع جريدة «هيرالد تريبيون» الأميركية إلا التعليق بأن خطاب نتنياهو فيه الكثير من مظاهر الشبه بخطاب «حال الأمة» السنوي. تساءل أحد كبار مقدمي برامج الفضائيات الأميركية عن الحكمة من تضامن الكونغرس مع رئيس دولة أجنبية ضد رئيس بلاده.

منذ بضعة أعوام، حين صدر كتاب «اللوبي الصهيوني» لاثنين من كبار الأساتذة الأميركيين، كتب أحد الباحثين في مجلة «فورين أفيرز» تعليقاً قال فيه إن الولايات المتحدة تؤيد وتدعم وتلتزم بإسرائيل ليس لأسباب خارجية، وليس بسبب ضغوطات تمارس عليها، بل بسبب النسب الروحي بين البلدين. كل منهما يزعم أنه شعب الله المختار، وكل منهما يزعم أنه شعب استثنائي ذو سمو أخلاقي، فوق الآخرين؛ مدينة على جبل؛ استثنائي في كل شيء، عن طريق هذا النسب الروحي تصبح إسرائيل الصغرى هي أميركا الكبرى، وأميركا الصغرى هي إسرائيل الكبرى.

إسرائيل تزجر أميركا، وأوباما يتوجه في خطابه إلى العرب بلهجة الآمر. يحدد للثورة العربية مسارها، ويرسم لكل حاكم عربي ما يجب أن يفعله، لكأن العرب رعاياه. كاد الأمر أن يكون أهون علينا لو مارس أوباما عدلاً بالسوية وخاطب إسرائيل باللهجة نفسها. هو لم يضع معياراً واحداً يكون أساساً لأحكامه على البلدان العربية. وهو لا يستطيع ذلك لأن الالتزام الأميركي هو التزام مطلق، وهو الالتزام الوحيد في المنطقة.

تطلب الإدارة الأميركية من الأقطار العربية أموراً مختلفة، حسب معايير مختلفة، لأنها تريدها مختلفة، وأن تبقى مختلفة، ولأنها تريد الاختلاف أن يتحول إلى فوضى، والفوضى إلى حروب أهلية.
في خطابه أمام الكونغرس قال نتنياهو مخاطباً عباس: مزِّق اتفاق المصالحة مع حماس وتعال نتفاوض. وصفق له الكونغرس. الإدارة الأميركية تصنف حكومة حماس إرهابية، بينما هي منتخبة ديمقراطياً. الحرب الأهلية في العراق لم تحدث إلا بإشراف الاحتلال الأميركي وبعده، وبناءً على تصنيف الأميركيين للمكوّنات العراقية الشيعية والسنية والكردية. قبل 11 أيلول بعشر سنوات أوقف الغرب انتخابات الجزائر من أجل إشعال نار حرب أهلية، علماً أن البلد غير متنوع دينياً ومذهبياً. والآن يحضّرون للمعارضة السورية برنامجاً كالذي جرى تحضيره للمعارضة العراقية قبل الاحتلال. سكتوا عن القمع السعودي- الخليجي لثورة البحرين. وهم الآن لا يريدون أن يرحل علي عبد الله صالح قبل مرحلة انتقالية (كما يصر أوباما). يريدون أن تُعرف ملامح الحكم القادم قبل قدومه. يريدون ديمقراطية عربية معروفة النتائج سلفاً. معروفة النتائج قبل إسقاط أوراق الاقتراع في الصناديق.

يعرف الأميركيون ويعرف الإسرائيليون، ويعرف العرب، ويعرف حكام هؤلاء أن الديمقراطية العربية والسياسة الإمبريالية- الإسرائيلية هما خطان متناقضان لا يلتقيان ولو بقدرة جيوش الاحتلال. وقد قيل صراحة للمعارضة العراقية في اجتماعها في أوروبا قبل الاحتلال إن المطلوب ليس الإرادة العراقية، بل تصنيف الشعب العراقي إلى مكونات، وهذا التصنيف بالذات هو الذي يستخدم كوقود للحروب الأهلية. تمّت حماية وزارة النفط خلال الاحتلال ونهب كل شيء آخر، بما فيه الوزارات الأخرى، بإشراف الجيش الأميركي، وبما فيه الآثار العراقية في متاحفه الغنية، في محاولة لإبادة تاريخ العراق.

عندما أظهر أوباما فصاحته حول الثورة العربية، لم يكن يريد تشجيع هذه الثورة من أجل الديمقراطية والحرية والكرامة العربية، بل من أجل مصادرة الثورة العربية وتوجيهها بما يخدم مصالح أميركا وإسرائيل.
الجماهير العربية ما استشارت أوباما عندما اندلعت ثوراتها. والأرجح أنها هي لم تعرف متى وكيف سوف تثور. هي ثارت لأنها لم تعد تطيق حالتها. حالتها كانت عبر عقود من السنين ناتجة عن تحالف الاستبداد العربي والإمبريالي. كانت إسرائيل تنعم بهذا التحالف. كانت تشن كل بضع سنوات حرباً على هذا البلد العربي أو ذاك وتنعم بالنتائج. في ظل تحالف الاستبداد العربي والإمبريالية كان بالإمكان ترتيب نتائج الحروب سلفاً. ما لا يمكن ترتيبه سلفاً هو ثورة الشعب العربي. لا يستطيع الأميركيون وأتباعهم عقد اتفاقات مسبقة مع الشعوب. هذا أمر مستحيل، لعدم وجود آلياته، على الأقل.

الإدارة الأميركية لا تطبق معياراً واحداً لكل الثورات العربية، كالديموقراطية أو غيرها. نرى ما يحدث في الجزيرة العربية. والأنظمة العربية لا تطبق معياراً واحداً في مواجهة الثورات عليها. الشعب العربي هو وحده الذي يطبق معياراً واحداً في كل بقعة عربية بين المحيط والخليج: الشعب يريد إسقاط النظام. هناك من الأنظمة من يعرف كيف يسقط سريعاً؛ وهناك من لا يريد الاستجابة لشعبه، بل للقوى الخارجية؛ وهناك من قرر مواجهة شعبه مهما كانت النتائج. النتائج محسومة، آجلاً أم عاجلاً، حين تترك المواجهة بين الشعوب وحكامها. ولا تعرف سلفاً عندما تتدخل القوى الخارجية. وكل ثورة تطلب تدخلاً خارجياً فإنها كمن يحفر قبره بيده، كما يحدث في ليبيا.

يخطئ المحللون على الفضائيات عندما يحللون الثورة العربية دون الأخذ بالاعتبار تدخلات الإمبريالية وجيوشها وقواعدها، وعملائها في الداخل. نرى غلبة لظهور هؤلاء على المحطات الفضائية. وهم يبثون ما يطلب منهم. ولا يسمح لأي منهم بالظهور إلا إذا التزم أنه سوف يقول محللاً ما يطلب منه.

الثورة العربية انطلقت من أجل الكرامة التي تشمل السيطرة على الثروات الطبيعية واستخدامها لمصلحة الناس. تشمل الكرامة التخلص من الاستبداد، وتشمل الخلاص من داعمي الاستبداد، والتخلص من الأمبريالية التي تحاول أن تكون شريكاً في الثورة العربية وفي الثورة المضادة. لم تتعود الإدارة الأميركية (ولا إسرائيل أيضاً) أن تكون شريكاً للشعوب العربية. يريدان أن يكونا شريكين لأنظمة عربية موجودة، أو لأنظمة مولودة من رحم أنظمة موجودة.

الإرادة العربية تعني دحر الإمبريالية ودحر الصهيونية (بوجود دولة واحدة في فلسطين، سكانها اليهود والعرب مع حق العودة لكل من طرد من أرضه). فلسطين عربية تستطيع أن تتحمل وجود أقلية يهودية، أو أكثرية يهودية، لكنها لا تحتمل الانقسام. يضع الإمبرياليون هدفاً للثورة العربية هو الانتخابات الديمقراطية؛ بعدها يعود كل متظاهر إلى بيته. يعرف الشعب العربي أن الثورة العربية سوف تُستكمل هادفة إلى التحرر القومي، إلى التوحد (في المطالب على الأقل) وهي تنشر العدالة الاجتماعية والتعاون الإنساني داخلاً وخارجاً. يصادر الأميركيون الثورة عندما يحصرونها ويحشرونها في هدف الانتخابات وحسب. يعرف الشعب العربي أن الثورة تتطلب التنمية، والتنمية الاقتصادية تتطلب وقتاً طويلاً نسبياً، وقتاً يمتد على مدى سنوات. تعرف الثورة أنها تستطيع اجتراح المعجزات، وقد فعلت ذلك شعوب آسيا الشرقية وأميركا اللاتينية عن طريق التنمية. الثورة العربية سوف تستمر متحوّلة إلى نضال تحرر وطني. التحرر الوطني لا يعني الاستقلال والانتخابات وحسب، بل يعني التخلص من كل القواعد الإمبريالية العسكرية والاجتماعية والاقتصادية، والصهيونية إحداها. لكن أميركا ملتزمة أمن إسرائيل التزاماً مطلقاً، وذلك ما يضعها في صف معاد للثورة العربية.

نظرية الأمن المطلق لأي كان، سواء لإسرائيل أو غيرها، هي نظرية لحروب أهلية مستمرة. على الأقل تسمح هذه النظرية بمعاقبة أي فريق أو شعب مناضل له مطالب. تُصنَّف المطالب إرهابية وتُستهدف عن طريق حرب الإرهاب. تعرف الشعوب العربية أن حرب الإرهاب موجهة ضدها في الأساس. وإذا أرادت الإمبريالية الأميركية أن تكون ديمقراطية فعلاً، فما عليها إلا الخروج من المنطقة بالكامل وسحب دعمها لأي نظام، بما فيه إسرائيل. مع تدخلها لا يمكنها معرفة الإرادة العربية. مع انسحابها يصير ممكناً معرفة هذه الإرادة معرفة يقينية. وإذا أرادت الأنظمة العربية التحول للوقوف بجانب الثورة فإن عليها التحالف مع شعوبها ضد الإمبريالية. ما زال النضال من أجل الحرية والديمقراطية نضالاً عربياً قومياً ضد جميع أشكال التدخل الخارجي. ولن يكتب للثورة العربية أسباب البقاء والاستمرار من دون أن تتحول إلى ثورة عربية استقلالية تحررية، ولو في أقطار متعددة.

في ثورة التحرر الوطني، من أجل الكرامة وغيرها، تنصهر جميع الإثنيات والطوائف والمذاهب. حدث ذلك في الماضي؛ وتوحّدت أقطار عربية عدة بعد أن جزأها الاستعمار. حدث ذلك، ويمكن أن يحدث ثانيةً. الأمل الأكيد هو أن ذلك ما سوف يحدث لتكون الثورة مستمرة حتى تحقق أهدافها في التنمية والعدالة والكرامة.

السابق
خطاب نصرالله يثبت المرحلة العالقة
التالي
أنستحق الحرية؟