الوجه السلبي للثورات

قبل فترة قصيرة جدا كان التدخل الأجنبي في البلدان العربية يُقابل بسخط كبير من الشعوب. وقد رأينا في السنوات الماضية العديد من المظاهرات الحاشدة والمهرجانات السياسية تندد بحضور الولايات المتحدة الطاغي على أجندة حكومات المنطقة.
عندما غزا حلف شمال الأطلسي أفغانستان كانت الشعوب الإسلامية كلها ضد الخطوة فحتى القطاعات العريضة التي تعارض فكر القاعدة جملة وتفصيلا، عبرت عن رفضها لضرب واحتلال ذلك البلد المسلم. كذلك وقف الشارع العربي من المحيط إلى الخليج ضد الغزو الأميركي للعراق. وأؤكد أن كل الشارع العربي كان ضد أميركا في ذلك التاريخ، حتى الدول التي تحتفظ بذكريات سيئة لنظام الرئيس الراحل صدام حسين كان مواطنوها غاضبين من احتلال عاصمة بني العباس.
حاليا نستطيع القول إن الشارع -ومعه النخب العربية- ليس بذات الحساسية من أميركا وحلف شمال الأطلسي. لا يمكن الزيادة على هذا الحد، ولكن هناك ملاحظة وهي أن التيارات والحركات العربية في المنطقة لم يعد يجمعها التوحد ضد التمكين للغرب في مقدرات المنطقة بقدر ما تجمعها مساندته أو الصمت في أحسن الأحوال.
بالنسبة للبعض فإن هذا الكلام يلفه الغموض إلى حد كبير، لكنني أرى أن الفكرة أصبحت واضحة. ويمكن القول إن الوجه السلبي للثورة ينعكس أيضا في أهمية الموقف الأميركي والأوروبي بالنسبة للجحافل البشرية التي تنزل للشوارع كل جمعة في مصر وسوريا وبنغازي واليمن.

لا شك أن الثورات العربية اجتماعية وشبابية، وعندما اندلعت في المغرب وانتقلت إلى المشرق كانت غضبا ضد الإهانة وزحفا لخلع الحكومات الموالية للغرب والضامنة لأمن إسرائيل. لكن القوى الكبرى دخلت على الخط بقوة منذ الثورة المصرية وأعلنت عن تأييدها لكرامة وحرية العرب، وبدا جليا أن مطالب الشارع لا تتحقق إلا إذا أذعنت لها أميركا أو اقتنعت بها إن جاز التعبير.

يسمع الحاكم العربي يوميا «ارحل» مليون مرة لكنه لا يرى نداء الرحيل جديا إلا عندما يصدر من حنجرة واشنطن.
عندما يقول باراك أوباما إن على القذافي أو صالح أو الأسد أن ينقل السلطة بسلمية أو يتنحى يفهم الشارع والقصر العربيان أن فجر التغيير قد بزغ فيتحرك قطار المبادرات والمباحثات.
كلنا نتفق على أن الولايات المتحدة معنية بمصالحها وحماية إسرائيل أكثر من ترسيخ الديمقراطية في العالم العربي، ويعني هذا أن ثمن تأييد واشنطن لربيع الثورات لن يخرج عن هذا المجال. أقصد بقاء إسرائيل جاثمة على صدور الفلسطينيين واحتفاظ أميركا بخيوط اللعبة وهيمنتها على خيرات وخيارات العرب. وإذا ما علمنا أن واشنطن حاليا تمد جسورا مع جميع المكونات السياسية ندرك أن أي وافد إلى الحكم سيكون من أولوياته حراسة الأهداف الأميركية في المنطقة، بما فيها الإسهام في تطبيق مبادرة الشرق الأوسط الجديد التي لم تسحب بعد.

الثورات إذن لم تحيّد القوى التي استعمرت العرب قديما ولغمت أرضهم بكيان موبوء اسمه إسرائيل، بل على العكس من ذلك جاءت لتقرّ مركزية أميركا في الشأن العربي. إنه لمن المؤسف جدا أن نثور على ارتهان الحكام للإرادة الأميركية، فنؤسس لعصر جديد تخلص كل مكوناته من أحزاب ونخب ثقافية وإعلامٍ لواشنطن.

كذلك، عقب الثورة اتجهت مصر -وهي ثقل العرب وأم الدنيا- إيجابيا نحو إيران التي تنكر حق بعض الدول العربية في الوجود وتؤكد أنظمةٌ في المنطقة أنها تتآمر لزعزعة استقرارها وغزوها مذهبيا رغم بعد الشقة بين الجانبين.
إن هرولة القاهرة نحو طهران من إفرازات الثورة غير الحميدة، خصوصا إذا ما نظرنا إليها في سياق تجاذبات جديدة تطبع المشهد السياسي العربي وتنذر بانفراط عقد الجامعة التي ينبغي الحفاظ عليها لحين بناء جهاز بديل يجمع الجميع

السابق
الحسن: مشكلة السيولة مازالت قائمة
التالي
عراجي: خطاب نصر الله لا يتضمن إلا رفض حكومة التكنوقراط