عشب على طرقات العرقوب بعد التحرير

بعد مرور 11 سنة على تحرير الجنوب، تبدو قرى العرقوب فارغة تقريباً من أبنائها. هؤلاء الذين لم تستطع إسرائيل باحتلالها ومضايقتها المستمرة لهم، أن تجبرهم على هجر أرضهم، أدخلهم التحرير، وللمفارقة، في جحيم المركزية، التي أصابتها بما أصابت أخواتها في كل الأطراف من إهمال وتصحر سكاني.

 بين ليلة السبت وضحاها الأحد، سرعان ما ينقلب المشهد في ساحات قرى الجنوب في قضاء حاصبيا المعروفة قبل التحرير «بالشريط الشرقي» المتاخم لفلسطين والجولان المحتلين، فمنذ إنجاز التحرير عام 2000، وتحديداً ليلة السبت من كل أسبوع، وخاصةً في الأيام التي تلي فصل الشتاء، تعودت شوارع قرى العرقوب أن تزدحم بأبنائها الذين يقصدون قراهم من أماكن سكنهم الحالية في بيروت وصيدا والبقاع، حيث يقيمون، بعدما شتّتهم التهجير القسري منذ بداية السبعينات. هكذا، فجأةً تدب الحياة في تلك القرى التي بلغت ربيعها الحادي عشر في حضن الوطن، دون أن تتمكن بذلك من العودة الى حضن الدولة الغائبة بإرادتها عن الجنوب المحرر. وقد يقول قائل: وماذا في ذلك؟ فكل المناطق والأطراف النائية تعاني ما تعانيه تلك القرى من انعدام فرص العمل، والاضطرار الى قصد العاصمة والسكن في ضواحيها. وبغض النظر عن «عدالة» هذه «المساواة» في الإهمال، قد يغفل المرء تفصيلاً هو ليس بتفصيل البتة، وهو أننا نتحدث عن الأرض المحاذية لعدو تشحذ شهيته التوسعية القرى الفارغة من سكانها، والأرض المهملة التي يأكلها العشب المجنون، ولا يردعه عن مواصلة القضم إلا المقاومة.

وبالمقاومة، لم يقصر أهالي كفرشوبا. هم الذين رفعوا شعار «حتى لا ينبت العشب على طريق كفرشوبا» حتى عدوان تموز الأخير عام 2006. كان الشعار رداً على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على بلدتهم، التي انخرط معظم شبابها مع ثورة فلسطينية وجدت في كفرشوبا يومها حاضنة شعبية لضرب العدو من أقرب منطقة جبلية متداخلة مع الأراضي الفلسطينية والسورية المحتلتين. أن لا تفرغ البلدة من أبنائها، كان هدفاً للأهالي رداً على الأهداف الإسرائيلية التي كان أحدها «جعل البلدة ملعباً لكرة القدم»، كما صرح أحد قادة العدو العسكريين حينها. بهذا كان ابن البلدة إبراهيم دقماق، الذي كان له دور في مقاومة المحتل، قد بدأ حديثه الحزين عن حال البلدة اليوم، لينتقل آسفاً الى «وصف حالتنا»، فيقول إن «هذا الإنجاز الكبير في الصمود في الأرض حتى تحريرها، لم تقم دولتنا، التي تتغنى بدعم المقاومة، بما هو مفترض بها أن تقوم به لتحصينه»، وللتدليل على ما يقوله يضرب مثالاً فيقول: «كان عدد أبناء كفرشوبا المقيمين تحت الاحتلال يتجاوز ألفاً ومئتي نسمة، أما بعد التحرير، فقد أصبح لا يتجاوز 800 مقيم». ويعيد الرجل أسباب هذا الانخفاض الى «هروب عنصر الشباب من البلدة بحثاً عن فرص عمل، حتى أمست أشبه بمأوى لكبار السن».

لا يختلف رأي «عنصر الشباب». هكذا، تقول آية الجمال (20 عاماً)، وهي طالبة إدارة أعمال في جامعات صيدا، إنها تزور «الضيعة» مرة كل شهر تقريباً في أيام العطل. عندما تسألها لمَ لا تبقى في البلدة تقول «هي بلدتي، وأحبها لا شك، لكن لا عمل هنا. في صيدا على الأقل أستطيع أن أشتغل وأدرس في الوقت ذاته».

رأي رئيس بلدية كفرشوبا قاسم القادري لا يختلف عمّا قاله شباب البلدة وأبناؤها، فهو يتخوف «إذا استمرت سياسة إهمال المنطقة إنمائياً من فراغ القرى من أبنائها كلياً بعد بضع سنوات». ويلفت الرجل الى أن حاجات المنطقة كبيرة، وقد تراكمت عبر الوقت، وهي تبدأ من مقومات الحياة الطبيعية كالمياه والكهرباء، ولا تنتهي بـ«الاستشفاء المعدوم في مستشفيات المنطقة المتوقفة عن العمل نتيجة التجاذبات السياسية» كما يقول، في إشارة الى مستشفى حاصبيا. ولا يستهين القادري بغياب أي جامعة هنا توفر على العنصر الشاب النزول الى بيروت أو المدن التي تحتوي على مؤسسات تعليمية جامعية بعد انتهائهم من المراحل الثانوية. أما بالنسبة إلى الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، فإن القادري يلفت الى تقصير الدولة التي «ما زالت مدينة لأبناء كفرشوبا بتعويضات عن عام 1978، لقاء ما دمره العدو الإسرائيلي في أملاكهم».

الحال في كفرشوبا لا تختلف عن بلدة شبعا، التي تكتظ طرقاتها الشديدة الانحدار بسيارات أبنائها الزائرين أيام العطل الأسبوعية، فيما لا تجتازها تقريباً إلا البغال بقية أيام الأسبوع، وخاصةً في الشتاء. ويؤكد محمد مركيس، الذي يملك محطة وقود عند مدخل البلدة، أن عدد المقيمين بعد التحرير لم يتدنّ فقط عمّا كان عليه قبل ذلك، بل أيضاً «حتى اللي كانوا يجوا كل اسبوع صاروا يجوا كل شهر، لارتفاع سعر البنزين». وبالطبع، «الحال من بعضه» بالنسبة إلى وضع المدارس والثانويات، دون الحديث عن فروع للجامعة الوطنية . هكذا، «مجرد يخلص الطالب الثانوي بينزل الى بيروت والى صيدا» كما يقول.

ويرى رئيس تيار المقاومة جميل ظاهر، ابن بلدة شبعا، أن السياسات المتعاقبة منذ التحرير حتى اليوم تؤكد في رأيه أن تعاطي جميع الأفرقاء مع منطقة العرقوب نابع من أنها لا تمثّل ثقلاً انتخابياً مؤثراً.
بدوره، تخوّف رئيس اتحاد بلديات العرقوب محمد صعب، من أن ينبت «العشب على طرقات العرقوب تحت رعاية الدولة، وبسبب سياستها الإنمائية غير المتوازنة». ويضيف «كل بلدات العرقوب تفرغ اليوم من أبنائها، فسياسة الإهمال وحال الطرقات لم يطرأ عليهما تغيير منذ عام 1950، سوى بعض الترقيعات».

ويتساءل صعب عن الآلية الممكنة لتشجيع الناس على البقاء وعدم النزوح إلى «العاصمة» بحثاً عن فرصة عمل، «ولطمأنتهم الى أنهم لن يموتوا قبل الوصول الى أقرب مستشفى، في منطقة تتعرض باستمرار للاعتداءات الإسرائيلية».

السابق
الجيش داهم شقة الحسيني في صور ويواصل التحقيق معه في اليرزة
التالي
بلدية صيدا هنأت بذكرى التحرير