اراضي جزين بين الاستثمار والانعزال

خلال زيارته الى منطقة جزين العام الماضي، شدد النائب ميشال عون في خطاب القاه بقرية بكاسين على ضرورة “إمتناع المسيحيين عن بيع أراضيهم للآخرين، حتى لا يكرروا مأساة الفلسطينيين، الذين، حسب رأيهم، باعوا اراضيهم لليهود في فلسطين”. وكان نائب جزين عن التيار الوطني الحر زياد اسود قاد الحملة الانتخابية البلدية عام 2010 تحت خطاب منع بيع الاراضي لغير المسيحيين والمحافظة على الارض.
فماذا يحصل في منطقة جزين، وماذا عن عمليات البيع التي تجري هناك؟

نموذج حي
أخيرا اضطر المهندس الزراعي حمزة حاموش الى بيع قطعة ارض تبلغ مساحتها 8000 مترا مربعا الى شخص ينتمي الى الطوائف المسيحية بعدما اشتراها منذ اعوام ولم يستطع تسجيلها في الدوائر العقارية.
تقع قطعة الارض في النطاق العقاري لقرية سنيا – قضاء جزين، وقد اشتراها حاموش بموجب عقد بيع ممسوح: “طلبت من البائع تأمين الاوراق القانونية المطلوبة للتسجيل من البلدية، لكنه لم يستطع تأمينها، لجأت الى القضاء واستحصلت على حكم قضائي من القاضي المنفرد في جزين، يلزم البائع بتأمين الاوراق اللازمة، الا ان البلدية رفضت تزويده بها”.
ويعترف رئيس بلدية سنيا انطوان جرجس ان “قرار البلدية غير قانوني، وحاموش بصفته لبنانيا له الحق في شراء اية قطعة في اية منطقة يريد”. وعند سؤاله عن سبب امتناعه عن اعطاء الاوراق اللازمة، يبرر جرجس ذلك: “إنّه قرار اتخذه المجلس البلدي السابق، ولا استطيع تجاوزه”.
ويكشف حاموش عن رسالة وجهها رئيس البلدية السابق يتهم فيها حاموش بأنه يشتري الارض لمصلحة آخرين، مشبها عمله بما فعلته العصابات الصهيونية في فلسطين، ويضيف: “لو أنّني متفرغ لمثل هذه المشاكل لرفعت عليه دعوى قدح وذم، ولكن الحمدلله اني انتهيت من هذه المشكلة”.

الخلفية التاريخية
تاريخيا، لا يمكن الادعاء ان ملكية اي ارض في لبنان تعود لطائفة معينة من الطوائف اللبنانية، فالمنطقة ما بين صيدا وجزين كانت ايام الامارة المعنية ملكا للاقطاع الدرزي تبعا لسيطرته على المنطقة. وقد استحضر الاقطاع الدرزي عائلات مسيحية في مطلع القرن السابع عشر لتشكل حاجزا ما بين شيعة الجنوب ودروز الجبل. وتدريجيا تحولت ملكية الاراضي الى المسيحيين. مثلا: قرية الهلالية الملاصقة لمدينة صيدا كانت ملكا لعائلتي شمس وجنبلاط اللتين باعتا الاراضي للفلاحين المسيحيين في مطلع القرن العشرين وكذلك قرية البرامية التي كانت ملكا لآل جنبلاط.
اما قرية كفرفالوس فقد اشتراها نقولا سالم في اربعينات القرن الماضي من الست نظيرة جنبلاط. وفي مطلع القرن الماضي قاد سليمان كنعان من جزين حملة شراء اراضي لصالح المسيحيين في المنطقة بأكملها.
اما قريتا عبرا والصالحية فقد قدمها احد الاقطاعيين الدروز إلى الكنيسة الكاثوليكية.
وفي ستينات القرن الماضي حولت الكنيسة الارض التي تعرف اليوم باسم “عبرا الجديدة” الى عقارات مفروزة وبيع معظمها الى اشخاص من صيدا. فيما باع القسم الاكبر من مسيحيي الهلالية عقاراتهم لحساب تجار بناء من مدينة نفسها.
وفي سبعينات القرن الماضي باع نديم سالم قسما من اراضي كفرفالوس الى الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي بنى عليها مجمعا طبيا، ثم باع قسما آخر الى أشخاص من آل عازار.
يضاف الى ذلك ان التمدد السكاني الطبيعي لمدينة صيدا هو لناحية الشرق، وبالتالي اتجه الكثير من اهالي المدينة الى شراء اراضٍ في منطقة جزين والقرى المسيحية بقضاء صيدا.

فترة التهجير
بعد تهجير المسيحيين من شرق صيدا عام 1985، اتخذت الادارة المدنية آنذاك قرارا بالتعاون مع المطارنة سليم غزال، جورج كزيتر وابراهيم الحلو، على منع بيع اراضي المسيحيين الا بموافقة مسبقة من الكنيسة. الا ان بعض الاشخاص المسيحيين كانوا يجرون عمليات بيع اراضي بموجب عقود بيع ممسوحة في بيروت ولم يجرِ تسجيلها في الدوائر العقارية الا بعد عام 1992.
وقبل سنوات اشترت شركة “تاجكو” اراضٍ في قرية القطراني يملكها اثنان من آل الحلو، قيل يومها ان الصفقة تمت لمصلحة حزب الله، وبني عليها مجمعات سكنية واسعة، تسكنها عائلات جنوبية وبقاعية، واتُهم حزب الله انه ينوي وصل البقاع بالجنوب عبر اقامة مجمعات تسكنها عائلات تنتمي للطائفة الشيعية.

الوضع الحالي
يقول رئيس اتحاد بلديات جزين خليل حرفوش إنّ “معركة البلديات خيضت تحت شعار المحافظة على الارض، لأن بيع الاراضي سيؤدي الى تهجير غير مباشر للمسيحيين من المنطقة، لذلك نعمل على وضع خطة تنموية لمدة عشر اعوام لاقامة مشاريع في مختلف الميادين في سعي لتثبيت الاهالي في اراضيهم وايجاد مناخ استثماري يؤدي الى اكتفاء ذاتي للمنطقة، لذلك طلبنا من من البلديات الامتناع عن الموافقة على بيع الاراضي لغير المسيحيين. وبالتالي تبقى بكاسين لاهلها والحمصية لاهلها”.
ويبدو ان هناك اتفاقا غير معلن على هذا الشعار الذي رفعه ايضا النائبان فؤاد السنيورة وبهية الحريري اثناء حملتهما الانتخابية عندما قالا: “صيدا لأهلها”. وقد استجابت معظم البلديات لهذا الطلب بالاضافة الى الضغط الذي يمارسه التيار الوطني الحر وقسم من الكنيسة.
ويوضح احد تجار العقارات انه اشترى عددا من عقارات قرية الحمصية على اساس ان عامل الاستثمار السطحي 30 % والعام 60 % وبعد بيعها تبين للمشتري ان عامل الاستثمار قد انخفض، وبقرار من البلدية الى 10 % سطحي و20 % عام (العقار 540 من منطقة الحمصية).
ويبرر حرفوش ذلك قائلا: “نحاول من خلال هذه الاجراءات اعادة التراث الفني الى المنازل والمباني وان نشترط وجود قناطر وقرميد، لا نريد ان نبني بنايات يمكن ان تتحول الى مساكن شعبية تشوه البيئة في منطقة جزين”.

ضد القانون
ويقول احد تجار البناء، الذي رفض نشر اسمه ان “بعض البلديات اتخذت قرارات تناقض قانون البناء في محاوة لمنع اهالي مدينة صيدا من التوسع عمرانيا باتجاه الشرق”، ويعطي مثالا “القرارات التي اتخذها المجلس البلدي في قرية الصالحية وحولها االى التنظيم المدني بصفة قيد الدرس، ما ويعني ان القرارات تنفذ بحسب رؤية البلدية الى حين بت الموضوع في التنظيم العقاري”.
لكن رئيس بلدية الصالحية نقولا اندراوس ينفي ان تكون البلدية قد منعت بيع الاراضي ويشرح: “حتى نتفادى مشكلة بيع الاراضي بشكل عشوائي رأينا انه من الضروري تنظيم القرية لتكون نموذجية في المستقبل ونحافظ على تراث الضيعة بشكل جميل”.
ويضيف اندراوس: “عام 1995 جرى تنظيم القرية وحوّلت 70 % من اراضيها الى اراضٍ زراعية و30 % تم البناء عليها بشكل عشوائي لا يمت للقرية بصلة. لكننا حولنا الاراضي الزراعية الى اراضٍ للسكن الخاص وبالتالي ترتفع قيمة الاراضي فيستفيد من يريد البيع، ومن يريد السكن عليه ان يبني وفق نموذج ضيعوي. وقد طلبنا استخدام القرميد والحجر الطبيعي وايجاد مواقف للسيارات وزرع نصوب زيتون قرب المنازل. وحددنا عامل الاستثماربالاتي 30/60، 20/60، 10/15، بحسب الموقع”.
لكن احد الذين يسكنون الصالحية يوضح ان “قرارات البلدية تصعب عملية البناء وتجعلها مكلفة الى درجة تدفع المواطن للاستغناء عن شراء قطعة ارض في الصالحية والذهاب الى مناطق اخرى”.

ماذا يجري في كفرفالوس
جدير بالذكر أيضا أنّ آل عازار اشتروا قسما من اراضي كفرفالوس من نديم سالم، وحولوا الاراضي الى عقارات صغيرة واشترطوا ان يتم بيعها الى مسيحيين فحسب. وقد فوجئت احدى السيدات التي اشترت عقارا في كفرفالوس ان جارها الذي اشترى العقار الملاصق لارضها مسلم اشترى العقار من مسيحي اشتراه بالسعر التشجيعي المعروض وباعه الى الشخص المسلم بالسعر الرائج.
ويوم الاثنين 23 ايار 2011، كان كاتب هذه السطور في احد المكاتب العقارية، وكان احد الصيداويين يشتري عقارا من اراضي كفرفالوس ويسجله باسم احد المسيحيين (أ.ق.)، الذي يعود ويبيعه للشاري الحقيقي بموجب عقد بيع ممسوح حفظا لحقه.
يقول الوسيط العقاري: “كل هذه القرارات التي تتخذها البلديات لا قيمة لها، فكثيرين من المسيحيين يبيعون اراضيهم التي تبقى باسم اشخاص من الطائفة نفسها، كما ان امين السجل العقاري يمكن ان يسجل العقار بدون أيّ أوراق من البلديات، بعد طلب المشتري من دائرة المساحة الكشف على العقار وابراز الحدود والمحتويات وبالتالي يمكن تسجيل العقار باسمه”.

التنظيم المدني
احد مسؤولي التنظيم المدني في الجنوب يقول إنّ “معظم بلدات منطقة جزين غير منظمة، اي ان عامل الاستثمار 40 سطحي و80 عام، الا ان كل بلدية تقترح ما تراه مناسبا لمنطقتها، واعتقد ان تنظيم الوضع في المنطقة المذكورة مهم جدا حتى لا نقع في تبريرات ومناظرات اطراف ممتصارعة، والحل بتشكيل هيئة هندسية مستقلة تضع مخططا توجيهيا يحافظ على جمالية وبيئة النطقة ويحدد عامل الاستثمار الطبيعي لكل موقع من مواقع المنطقة.
فهل يمكن تنفيذ هذا الاقتراح الموضوعي المحايد بدلا من أن نبقى اسرى جشع تجار العقارات والابنية وهوس الانعزال تحت حجة المحافظة على الارض؟

السابق
أيها الجنوب: أشعر بالإحتلال
التالي
مسح العقارات الالزامي: فساد يقلق الأهالي