أيها الجنوب: أشعر بالإحتلال

10 سنوات إذا من التحرير عشناها بلا تحرير. كان المنزل محتلا من قبل مجلس الجنوب...

اليوم يتمّ الجنوب عامه الحادي عشر حرّا. ربما لا يمكن في عمر قصير كهذا أن نحاسب من عاش محتلا طوال حياته. وابن خلدون يقول إنّ من تحتلّ أراضيهم ويحكمون بالقوة، يأخذون الكثير من طباع محتلّيهم وعاداتهم.

لكنّني اليوم أريد أن أفتح فمي قليلا، لا لأبقّ واحدة من البحصات التي نجبر على ابتلاعها يوميا، ولا لأصرخ، ربما ما زال الوقت باكرا على الصراخ، ولكن لأقول القليل القليل مما أضمره وأفكّر فيه. وأجزم أنّ آلاف الجنوبيين، وربما عشرات أو مئات الآلاف منهم، يفكّرون بما أهجس به.

أذكر أنني زرت الجنوب، قبل تحريره في العام 2000، ثلاث مرّات وربما أربعة. في المرة الأولى خلال الحرب التي خيضت ضد الجنرال ميشال عون، ويومها ما عادت بيروت الغربية آمنة، فهربنا إلى الجنوب، بين قرية والدي، ربثلاثين، وقرية والدتي، ميس الجبل.

ثم زرته مرتين، ربما، بعدها. وكنت أعبر الحاجز الإسرائيلي والحاجز اللبناني برفقة عمتي، أنا المولود في العام 1984، وكانت تقول إنني ابنها، لأنّ والدي كان مطلوبا، كونه قاد مجموعة حزبية مقاوِمة في قريته قبل الإجتياح، وكان ما يزال مطلوبا للإسرائيليين واللحديين رغم نزوحه قسرا في الثمانينات، وتلك قصة أخرى.

لكنني كنت أكذب وأقول إنني ابن عمتي، لأنّ أولاد والدي قد يلقى القبض عليهم لمقايضة حرية والدي بحريتهم. وكنت أدخل الجنوب بموافقة سلاح أكرهه. الكذب إذا، والسلاح الظالم، والجنوب البعيد: هل تغيّر الكثير؟

بعد تحرير الجنوب لم يوافق مجلس الجنوب على دفع التعويض المخصّص لنا، وهو 30 مليون ليرة، لبناء البيت الذي هدمته الجرافات الإسرائيلية بعد الإجتياح الأول في العام 1978، وظلّ ركاما حتى العام 2002.

دفع مجلس الجنوب 12 مليونا فقط كدفعة أولى، وما زال يحبس عنا الباقي حتى اليوم، لأسباب لا تخفى على أحد. وفي حين كان المنزل يمكن أن يبنى بـ30 مليون ليرة يومها، ما عادت الملايين الـ30 تبني غرفة اليوم.

من هناك بدأت أزمة الثقة بيني ويبن الجنوب. من حبس المال لأسباب كيدية وسياسية وإجتماعية وغيرها. بعدها صرنا نزور الجنوب في المناسبات، إذ لا بيت يأوينا. وبلا طول سيرة، لم يستطع والدي إكمال بناء المنزل حتى العام الفائت، وتحديدا في نهاية العام 2010.

 

10 سنوات إذا من التحرير عشناها بلا تحرير. كان المنزل محتلا من قبل مجلس الجنوب، محتلا بمنع المال. وبلا طول سيرة أيضا، صرنا نزور الجنوب أكثر، بشكل أسبوعي تقريبا بعد الانتهاء من بناء المنزل، وإن لم يكتمل الدهان وغيرها من “الكماليات”.

بات يمكن النوم في المنزل وكان ذلك كافيا. لكن لم أستطع بناء علاقات مع نظرائي الشباب في الأشهر الأخيرة، كما في السنوات الـ10 الفائتة. وكانت أخبار الخمر ومنعه في النبطية، وكيف أنّ زجاجة بيرة قد وتّرت أجواء كفررمان وكادت تتسبب بسقوط قتلى وجرحى، وبعد أخبار عدّة مماثلة، بدأت أزمة جديدة بيني وبين الجنوب.

لم يكتفِ مجلسك أيها الجنوب بمنعي من رؤيتك لعشر سنوات، بل ها هو يخيفني، أنا “المختلف”، ويجبرني على الخضوع لأوامر وإرشادات تخالف القانون اللبناني، الذي لا يمنع شرب الخمر ولا بيعه ولا السباحة فيه إذا أحبّ أحد.

ليست قصّة خمر لمن يريد أن يتذاكى وأن يتفاقه ، بل هي قصّة الحرية الفردية، حرية أن أكون فرد منفصلا عن الجماعة، ولي رأيي المختلف عنها ومعها، ولي عاداتي وتقاليدي وهواياتي التي قد لا تعجب “الرابط” في القرية، الذي عادة ما يكون أقلّ علما من وجهاء القرية ووجوهها العلمية والأكاديمية والوظيفية، مع فائق الإحترام للجميع.

إقرأ أيضاً: بشار أهم من المقاومة

بات لكلّ قرية حاكم أوحد اسمه “الرابط”، وهو يأمر وينهي ويمثل الله على أرض القرية، وصرت أرى في أسلحتهم وتهديداتهم المستمرّة للجميع، أرى فيها مرادفا للسلاح الذي كان يخيفني، وأرى في إرشاداتهم مرادفا صريحا للتصريح الذي كان يجب الحصول عليه لدخول الجنوب.

في السابق كنت أدخل الجنوب تحت أمرة سلاح أكرهه ويكرهني، لكن أمرّ إلى جانبه ولا نقتل بعضنا البعض لأنني مدنيّ، واليوم، أدخل قريتي تحت أمرة سلاح يكرهني أيضا، لكن أمرّ إلى جانبه ولا يقتلني، حتى الآن.

أما الأرض نفسها، التي يبنت الزرع عليها، هذه الأرض لم يتبقّ منها في قريتي شيئا إلا و”نهبه” حزبيون أو مدعومون من حزبيين. ما عاد في قريتي “متر مشاع” لزرع شجرة مشتركة، ولا مكان لبناء حديقة أو مكتبة، ولا عاد هناك مساحة عقارية مشتركة بعدما أتى “الجراد الحزبي” على كلّ المشاعات والأملاك العامة في القرية، كما في معظم قرى الجنوب.

إقرأ أيضاً: عاصمة المقاومة والتحرير احتلّها الإستزلام وضعف بها الإنماء

“الأرض لمن حرّرها”، قال أحد الحزبيين لأحد أقاربي، وأضاف آخر: “لَو ما إِجِرنَا ما شفتو أرضكن”. يا سلام. هكذا تكون الإنتصارات والله بلاش. هكذا يكون التحرير، بالأقدام المرفوعة في وجوه المدنيين المسالمين.

أيها الجنوب، لن أطيل عليك: في عامك الـ11 محرّرا، ثمة أزمة عميقة بيني وبينك. ثمة أزمة ثقة، ولا أراك حرًّا، لا بالأرض ولا بالأفكار ولا بالحرّية نفسها، ولا أدخلك مطمئنا ولا شاعرا بأنني أدخل بيتي، بل بأنّ بيتي يسيطر عليه أغراب لا يحبونني، ويريدونني إما أن أشبههم، أو أن أرحل عنهم، لكنني لن أشبههم، ولن أرحل عنهم، سأبقى في أرضي، هكذا علّمني والدي حين كنت محتلا، وهكذا سأعلّم أطفالي.

بعد 11 عاما من “التحرير”: فعلا، أشعر بالإحتلال.

السابق
زوجة السنيورة تتعرض لحادث سير
التالي
اراضي جزين بين الاستثمار والانعزال