عمول نارجيلة.. والبلدية بتكبّ بالبحر

يوم ماراتوني في العمل، منذ بدايات النهار، واستمر حتى بدايات الليل. الحوارات بين الزملاء، التدقيق في الأخبار والمواد لتحريرها، صوت مذيعة الأخبار الذي كنت أحبه خلال الأيام العادية، وبتّ أمقته عندما يترافق مع الضجيج، أصوات الآلات والمعدات في ورشة البناء إلى جانب مبنى الجريدة، والتي تعمل ليل نهار، ضاربة عرض الحائط بالقوانين التي لا تنفذ، وحقوق الناس في الهدوء والطمأنينة، تجتمع كلها لتنغّص عليّ يومي، على الرغم من عشقي لوظيفتي، وللدور الذي أؤديه.

الساعة تقارب الحادية عشرة ليلاً، لم يتبقّ من واجباتي سوى التدقيق في «بروفا» الصفحات المكلّف بتحرير أخبارها وتحقيقاتها، كما أن المبنى، بات يخلو من الموظفين والزملاء، الذين بدأ عددهم يتناقص، كما لو كانوا يضيعون في الضباب.
وانتقل «مرمح الخيل» من مكتب التحرير، إلى غرفة الاخراج والتنفيذ، هناك، يجلس محمد خلف شاشة حاسوبه، ويقوم بتنفيذ ما رُسِم له من صفحات الجريدة، أما جوزف، فيدخل حيناً يشير لمحمد إلى خطأٍ ما، ثم يعود إلى غرفته، «مبحلقاً» في صفحةٍ أخرى علّه يصطاد خطأً آخر، يقيه تصحيحه ملامات الغد.

وقاربت الساعة الصفر، محمد نشيط، جوزف منهك، وأنا ضجران، فما كان من الأول إلّا أن اقترح «تمشاية» على رصيف المنارة، مع فنجان من القهوة، خصوصاً أن الطقس يتراوح ما بين الربيعي والصيفي، وافقت بسرعة، جوزف على مضض، أما محمد فابتسم ابتسامته العريضة… المعتادة.

أنهينا العمل، وانطلقنا من الحمرا باتجاه المنارة، اشترينا القهوة، وأسرعنا لبلوغ السد الحديدي على حائط الرصيف.
ما إن اتكأنا على «الدرابزون»، حتى أقلعنا عن الفكرة، ضوء المنارة الكبيرة، والمنارات الصغيرة من القناديل المنتشرة على أعمدة الطريق، أظهرت بوضوح تام حجم الكارثة البحرية، التي لا يمكن لـ«الأزرق الكبير» ولا أي أزرق آخر، أو حملة أخرى، أن تنقذ بحرنا المتوسط الجميل منها، نفايات هنا وهناك تتقاذفها الأمواج، وترميها على الشاطئ مدّاً، ثم تعيدها إلى البحر جزراً.

جلّ ما حيّرني حينئذٍ، ذلك الصياد الذي كان يرمي خيط صنارته بعيداً في البحر، ثم يخرج سمكةً ويضعها في سلّته، خصوصاً بعدما أدركت أن أحد أهم مجارير بيروت… يصب في تلك البقعة.
قررنا أن نسير، وما هي إلّا دقائق معدودة، حتى حسبت نفسي في إحدى المدن الليبية، حيث تدور أعتى المعارك بين قوات القذافي والثوار من أبناء شعبه، ثلاث سيارات رباعية الدفع، مكشوفة الصندوق، توقفت كأن العناصر التي ركبتها ستنفذ عملية دهمٍ واسعة النطاق، أو ربما ستصدّ اختراقاً بحرياً قام به زورق معادٍ.

استنفر أصحاب البزات الحشيشية، وركضوا جميعاً نحو الهدف… نارجيلة.
لم يكن يخيّل إلى أحد من هواة «التمشاية» أن نارجيلة يمكنها أن تحوي عبوة ناسفة، أو ربما كانت تستهدف شخصية سياسية بارزة في ذلك الليل الربيعي من شهر أيار، جلّ ما اقترفته تلك النارجيلة أنها وجدت في المكان الخطأ، وأمام الشرطة غير المناسبة.
تناست شرطة بلدية بيروت آلاف المخالفات، من المجارير، إلى الأرصفة المليئة بكراسي المطاعم والمقاهي، وأحواض الزهور أمام المحال، و«ليستة» الأسعار، وحتى السيارات، لتحرم المشاة من مكانهم الطبيعي للسير في شوارع العاصمة، كما تناست اللوحات الاعلانية المخالفة، وورش البناء المزعجة، وصبّت جام غضبها على… نارجيلة.

لكن المشهد المضحك المبكي، أن البلدية، وعلى أيدي «باش شاويش» الدورية، أشيب الشعر، قمعت مخالفة النارجيلة بمخالفة أشد قبحاً، إذ همّ ذلك الـ«باش شاويش» بحمل «منقل» الفحم، وعلبة المعسل، وما إلى ذلك من مستلزماتها، ورمى بها…إلى البحر.
هكذا، وعلى عينك يا مواطن، وعلى مدّك يا بحر، أكّد الأشيب وعناصره، أن جهازهم، بحاجة إلى حملةٍ تغيّر ما في أنفسهم، في انتظار أن يغيروا هم هذا الـ»ما».

السابق
الزهار:تفويض التفاوض لا يمثل حماس
التالي
الحريري زارت مركز صفدية في صيدا