العمالة المتكتلة

إن كل الخطط الرامية إلى تخفيف عبء العمل وزيادة كم الفراغ عُرضة للوقوع ضحية لاستعدادنا العبقري لاستحضار كوارث جديدة، وفي كل الأحوال فإن الرأسمالية والاقتصاد في احتياج إلى الندرة لتبرير وجودهما، ولن يتنازلا عنها بسهولة.

بينما يتعافى العالم من أزمة الركود العظمى، بات من الصعب على نحو متزايد أن نتبين الاتجاه الحقيقي للأحداث، فنحن من ناحية نقيس التعافي استناداً إلى نجاحنا في العودة إلى مستويات النمو والناتج وتشغيل العمالة في مرحلة ما قبل الركود، ومن ناحية أخرى، هناك شعور مقلق ومربك بأن «الوضع الطبيعي الجديد» اليوم قد يكون النمو البطيء وارتفاع مستويات البطالة.

لذا فإن التحدي الآن يتمثل في صياغة السياسات القادرة على توفير فرص العمل لكل الراغبين في العمل في ظل اقتصاد قد لا يكون قادراً على توفيرها بتنظيمه الحالي، وتزداد حدة هذه المشكلة في البلدان المتقدمة مقارنة بالبلدان النامية، ولو أن الاعتماد المتبادل يجعلها مشكلة مشتركة إلى حد ما.

وهناك جانبان لهذه المشكلة، فمع تزايد ازدهار البلدان، يتوقع المرء أن تتباطأ معدلات النمو لديها، ففي أوقات سابقة، كان النمو يتغذى على ندرة رأس المال، إذ كان الاستثمار الرأسمالي يجتذب معدلا مرتفعا من العائد، ولقد أدى هذا إلى خلق حلقة حميدة من الادخار والاستثمار.

اليوم أصبح رأس المال في العالم المتقدم وفيراً؛ فانحدرت معدلات الادخار مع تزايد معدلات الاستهلاك؛ وتحول الإنتاج على نحو متزايد نحو الخدمات، إذ تكون مكاسب الإنتاجية محدودة، لذا فقد تباطأ النمو الاقتصادي، أي الارتفاع في الدخول الحقيقية، والواقع أن هذا الاتجاه كان قد بدأ قبل أزمة الركود الأخيرة، وعلى هذا فإن توفير فرص العمل بدوام كامل وبأجور لائقة أصبح أمراً متزايد الصعوبة، ومن ثم نمو الوظائف العارضة المتقطعة بدوام جزئي.

والجانب الآخر من المشكلة يتلخص في الزيادة الأطول أمداً في البطالة بسبب التكنولوجيا، والاعتماد على الآلة أكثر من البشر من ناحية ثانية، فيشكل هذا علامة على التقدم الاقتصادي، إذ يرتفع ناتج كل وحدة عمل على نحو مستمر، ولكنه يعني أيضاً أن وحدات أقل من العمل باتت مطلوبة لإنتاج نفس الكمية من السلع.

ويتلخص حل السوق لهذه المشكلة في إعادة نشر العمالة المستغنى عنها على قطاعات الخدمات، لكن الوظائف في أغلب أفرع قطاع الخدمات هي في واقع الأمر وظائف بلا مستقبل.

وتساهم الهجرة في تفاقم جانبي المشكلة، ذلك أن قسماً كبيراً من الهجرة- خصوصاً داخل الاتحاد الأوروبي- عرضي، إذ يأتي العامل اليوم ثم يرحل غدا، في ظل غياب أي من التكاليف المرتبطة بتوظيف العمالة بدوام كامل، وهذا من شأنه أن يزيد من جاذبية الأمر في نظر أصحاب العمل، ولكنه عمل منخفض الإنتاجية، وهو يزيد فضلاً عن ذلك من صعوبة العثور على عمل ثابت بالنسبة إلى أغلبية القوى العاملة في البلاد.

هل نحن محكوم علينا إذن بالتعافي غير القادر على خلق فرص العمل؟ وهل ننتظر مستقبلاً مع ندرة فرص العمل إلى الحد الذي قد يضطر العديد من العاملين إلى قبول أجور زهيدة حتى يتمكنوا من العثور على أي وظيفة، والاعتماد بصورة متزايدة على التحويلات الاجتماعية مع انخفاض الأجور إلى مستويات أدنى من حد الكفاف؟ أم هل ينبغي للمجتمعات الغربية أن تتوقع جولة أخرى من سحر التكنولوجيا، مثل ثورة الإنترنت، تعمل على إنتاج موجة جديدة من خلق فرص العمل والازدهار؟

من قبيل الحماقة أن نستبعد الاحتمال الأخير مسبقا، فالرأسمالية تتسم بالعبقرية في إعادة اختراع نفسها، فقد شهدت الرأسمالية زوال كل منافسيها، ولا يوجد منافسون جدد في الأفق، ولا يستطيع أحد فضلاً عن ذلك أن يتنبأ باكتشاف معارف جديدة؛ ولو كان ذلك ممكناً لكانت قد اكتشفت بالفعل، لكن هناك أيضاً احتمال أكثر إزعاجا:

إذا نجحنا بالاستمرار على مسارنا المسرف الحالي في جعل الموارد الطبيعية شحيحة، فإننا سنكون في احتياج إلى موجة جديدة من التكنولوجيا، بصرف النظر عن التكاليف، لإنقاذ أنفسنا من الكارثة.

ولكن دعونا نبعد هذه التوقعات الكئيبة جانباً، ولنتدبر كيف قد يبدو الحل المتحضر لمشكلة البطالة الناتجة عن انتشار التكنولوجيا. الإجابة تتلخص بكل تأكيد في تقاسم العمل، ولكن أي اقتراح من هذا القبيل يُعَد بمنزلة اللعنة في نظر خبراء الاقتصاد من الأنجلو أميركيين، وذلك لأنه يطيح بمغالطة «كتلة العمل» التي يحلمون بها، وهي فكرة تمتعت بشعبية كبيرة ذات يوم في الأوساط النقابية، ومفادها أن كم العمل المتاح ثابت ومحدد، ولابد من تقاسمه بالعدل والمساواة.

وهي فكرة مغلوطة بكل تأكيد عندما تكون الموارد شحيحة، ولكن حتى أهل الاقتصاد لم يتصوروا قط أن النمو قد يستمر إلى الأبد. لقد توقع مؤسسو هذا الفرع من المعرفة أن البشرية، عند نقطة ما في المستقبل، سيصل إلى «حالة ثابتة» من توقف النمو عند مستوى الصفر، وآنذاك لن نحتاج إلا إلى كم معين من العمل- أقل كثيراً مما نقوم به الآن- لإشباع الاحتياجات المعقولة كافة، وسيكون الاختيار آنذاك بين بطالة بلا حدود مدفوعة بالتكنولوجيا وتقاسم العمل الذي ينبغي القيام به.

والواقع أن الحل الأول لن يفضله إلا مدمن على العمل، ولكن من المؤسف أن هذا الصنف من الناس مسؤول عن وضع السياسات في الولايات المتحدة وبريطانيا، وتتبنى العديد من الدول الأوروبية الأخرى الحل الثاني، والواقع أن خطط تقاسم العمل، بأشكال عدة مختلفة، أصبحت تمثل القاعدة في هولندا والدنمارك، كما بدأت تحرز نجاحات في فرنسا وألمانيا.

إن العنصر الأساسي في أي نهج من هذا القبيل يتلخص في الفصل بين العمل والدخل، وفي الدنمارك يعترف قانون صادر في عام 1993 بالحق في العمل بشكل متقطع، في حين يعترف أيضاً بحق الناس في الحصول على دخل مستمر، ويسمح هذا القانون للموظفين باختيار عام «انقطاع» يمكنهم تقسيمه إلى فترات أقصر كل أربعة أو سبعة أعوام.

ويحل العاطلون عن العمل محل هؤلاء القائمين بإجازة، والذين يتلقون 70% من إعانة البطالة التي كانوا سيحصلون عليها إذا فقدوا وظائفهم (90% من الراتب عادة).

ولقد تمكنت النقابات في الدنمارك من استخدام هذه الحقوق الفردية القانونية لتقليل ساعات عمل قوة العمل في الشركة بالكامل، وبالتالي زيادة عدد الوظائف الدائمة، ويبدو أن فكرة الدخل الأساسي الشامل، المدفوع لكل المواطنين، بصرف النظر عن وضعهم في سوق العمل، قد تكون الخطوة المنطقية التالية.

لا شك أن هذه الفكرة لن تحظى بإعجاب الجميع، وكما أشرت أعلاه، فإن كل الخطط الرامية إلى تخفيف عبء العمل وزيادة كم الفراغ عُرضة للوقوع ضحية لاستعدادنا العبقري لاستحضار كوارث جديدة، وفي كل الأحوال فإن الرأسمالية والاقتصاد في احتياج إلى الندرة لتبرير وجودهما، ولن يتنازلا عنها بسهولة.

السابق
حينما تفقد سياسة التقشف جدواها
التالي
مصر… قيد الاختبار!