السوريون فرضوا التغيير في الموقف الأميركي!

مع دخول الثورة في سورية شهرها الثالث تحدّث الرئيس باراك اوباما عن الوضع في هذا البلد العربي المهمّ. هناك للمرة الأولى تغيير حقيقي في السياسة الأميركية تجاه سورية. وحده الوقت سيحدد إلى أين سيصل هذا التغيير. لكن الواضح أن الولايات المتحدة لم تعد مقتنعة بأن من الأفضل الابقاء على الوضع الراهن بكل سيئاته من منطلق أن سقوط النظام يمكن أن يؤدي إلى مجيء آخر متطرف لا يمكن التكهن بطبيعة السياسات التي سيتبعها. ربما كان التغيير الأميركي عائداً إلى اقتناع واشنطن بأن السوريين جادون في التغيير وأن هناك شعباً مصرّاً على نقل البلد إلى مرحلة أفضل في ضوء إدراكه لعمق الأزمة التي يمرّ بها سورية نتيجة ثمانية وأربعين عاماً من حكم الحزب الواحد. إنه حزب لا يؤمن سوى بالشعارات والقمع ويعتقد أن السوريين من الغباء إلى درجة سيصدقون أن هناك شيئاً اسمه ممانعة أو مقاومة اضاعتا عملياً الجولان وكل فرصة اتيحت من أجل التطور. لم يبق من الجولان سوى المتاجرة به. انها تجارة تستخدم لتغطية الفشل السياسي والاقتصادي والتنموي والاجتماعي على كل الصعد.

هناك، بكلام أوضح شعب سوري فرض التغيير على أميركا، هناك بقعة زيت تتسع مساحتها يومياً لتشمل كل المحافظات والأراضي السورية. في المقابل هناك نظام غير قادر على معالجة أي مشكلة من أي نوع كان، بدءا بالنمو السكاني ذي المعدلات غير الطبيعية مروراً بالعشوائيات التي تطوق المدن وانتهاء بالبرامج التربوية والصعود المستمر للنفوذ الإيراني الذي بلغ ذروته مع قبول دمشق بالتحول إلى تابع لطهران في لبنان اثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري واضطرارها إلى سحب قواتها من الأراضي اللبنانية.

لم يكن الحقّ على الرئيس بشّار الأسد الذي ورث نظاماً غير قابل للتطوير يعتقد أن الانتصار على لبنان بديل من الانتصار على إسرائيل. الحقّ كل الحقّ على التركة الثقيلة التي لا يستطيع أي رئيس لسورية أن يفعل بها شيئاً إذا لم يتخذ قراراً واضحاً بالطلاق مع الماضي. بدل أن يتخذ الرئيس السوري مثل هذا القرار ويفكّر ملياً في المشاكل الحقيقية لسورية بصفة كونها تحولت إلى رجل المنطقة المريض، راح يقرأ من كتاب قديم عفا عنه الزمن لا علاقة له بالقرن الواحد والعشرين وما بعد انتهاء الحرب الباردة. لم يفكر يوماً على سبيل المثال لماذا هناك مليون ونصف مليون عامل سوري في لبنان، البلد ذي الموارد المتواضعة، بدل أن يكون هناك عشرات آلاف اللبنانيين يعملون في سورية ذات الموارد الكبيرة والقدرات الهائلة في مجالات الزراعة أو السياحة على سبيل المثال وليس الحصر. لماذا لا خدمات من أي نوع كان في سورية في حين أن بعض افضل رجال المصارف في لبنان هم من السوريين الذين هربوا من نظام «البعث» ليجدوا في لبنان وطناً يوفر لهم جواً من الحرية يسمح لهم باستخدام ما يمتلكونه من طاقات.

يمكن وضع كتاب من مئات الصفحات لتعداد «انجازات» النظام السوري الذي لم يلتفت يوماً إلى خطورة تدني مستوى البرامج التربوية ولا إلى أسباب هجرة العقول من سورية أو حتى سبب عدم وجود مستشفى لائق في بلد لديه بعض أفضل الاطباء في العالم يعملون في أرقى مستشفيات الولايات المتحدة أو كندا، أو في بلدان اوروبية.

في حال كان مطلوباً أخذ عبرة من تطورات الأسابيع القليلة الماضية، فإن أقل ما يمكن قوله هو أن النظام السوري غير قابل للإصلاح. ولذلك، من مصلحة السوريين العمل على انقاذ بلدهم من النظام وهو ما يفعلونه يومياً. فالسوري العادي يدرك، بعيداً عن المشاكل الخاصة ببلده، أن التخلص من كمال جنبلاط في العام 1977 في عزّ الحرب الباردة سيسمح للنظام في دمشق بإخضاع لبنان. لكنه يدرك أيضاً أن التخلص من رفيق الحريري في العام 2005، لن يؤدي إلى النتائج نفسها. على العكس من ذلك، كانت النتائج مختلفة تماماًَ لأسباب مرتبطة بتغيّر العالم والمنطقة وليس فقط لأن الحريري كان زعيماً وطنياً يمتلك رصيداً عربياً ودولياً… ولأنّ اهل السنة لن يقبلوا بالإهانة والذل والتبعية إلى ما لا نهاية، لا في لبنان ولا في سورية!

مرة أخرى، النظام السوري غير قابل للإصلاح. السؤال هل يمكن إنقاذ سورية؟ الأكيد أن الكلام عن مقاومة أو ممانعة لا يقدم ولا يؤخّر وأن الاعجاب بتجربة «حزب الله» في لبنان هو الطريق الأقصر إلى الوصول إلى حائط مسدود، نظراً إلى أن ليس لدى «حزب الله» ما يقدمه للبنان سوى نشر البؤس والتخلف وتدمير مؤسسات الدولة وإثارة الغرائز المذهبية وتكريس الوطن الصغير «ساحة» للنظام الإيراني لا أكثر.

من الآن، يفترض في القيمين على النظام السوري التفكير بطريقة مختلفة يكون التركيز فيها على إنقاذ سورية. من حسنات سيف الإسلام القذّافي، بغض النظر عن الرأي السلبي لكثيرين في شخصه، أنه سعى في مرحلة معينة إلى إصلاحات في ليبيا وفشل في ذلك فشلاً ذريعاً تدفع ثمنه اليوم ليبيا كلها. اصطدم سيف بوالده «القائد» وصار ضحية من ضحايا هذا الاصطدام، خصوصاً في مرحلة ما بعد اندلاع الانتفاضة الأخيرة عندما راح يقرأ في الكتاب الذي حكم من خلاله العقيد معمّر القذافي «الجماهيرية». المؤسف أنه لم تحصل في سورية أي محاولة للقيام بإصلاحات. بقي النظام يعيش في ظلّ الأوهام التي يؤمن بها بما في ذلك قدرته على استخدام الفلسطينيين وقوداً، كما حصل الأحد الماضي في جنوب لبنان والجولان. كان النظام دائماً عصياً على الإصلاح. المخيف أن الثمن الذي قد تدفعه سورية سيكون غالياً، بل غالياً جداً.

في هذا الجوّ المكفهر، تبقى البارقة الوحيدة إصرار الشعب السوري على مقاومة النظام. هذه المقاومة هي التي فرضت التغيير في الموقف الأميركي. فبعد نصف قرن تقريباً م
ن حكم «البعث» الذي أسست له مرحلة الوحدة مع مصر، أي دولة المخابرات، بين العامين 1958 و1961، لا تزال هناك نواة سورية مصرّة على الخروج من الظلم والظلام والظلامية. لا يزال هناك سوريون يؤمنون بأن بلدهم يستحق الحياة وأن الشعب السوري يستأهل العيش في دولة ديموقراطية تبيع بضاعة أخرى غير تأمين الأمن للآخر بعيداً عن كل نوع من أنواع الابتزاز، خصوصاً أن الابتزاز شيء والسياسة شيء آخر… في القرن الواحد والعشرين! أخيراً أدركت واشنطن هذا الواقع الذي فرضه السوريون وبدأت في التعاطي معه بشكل جدّي.

السابق
النهار: انقطاع المشاورات بين قوى الأكثرية وميقاتي ينتظر
التالي
رسالة من المتعاقدين إلى سليمان وبري والنواب