ما هو سر تزامن زيارتي شيباني وفيلتمان لبيروت؟

لا ريب أن ثمة في الوسط السياسي اللبناني من يطرح أكثر من سؤال حول ما إذا كان تزامن زيارتي مساعد وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان ومعاون وزير الخارجية الايراني محمد رضا شيباني مجرد أمر عارض، أم انه يختزن في طياته صورة تعكس جزءاً من صراع الدولتين وتجاذبهما حول مآل الأوضاع في ما يتعدى ساحة لبنان في لحظة التحولات العاصفة التي تشهدها المنطقة منذ فترة.

ومما يزيد في لجاجة المتسائلين حول كنه الترابط بين الزيارتين لساحة واحدة في يوم واحد، ان "بطلي" المشهد هما من الذين امضوا على الساحة اللبنانية أعواماً، بصفتهما سفيرين، وكلاهما يعرفان عن ظهر قلب صورة المشهد اللبناني وأسراره ودقائقه.
وعليه، فإن السؤال الأول المطروح في الشكل حول الزيارتين، هو هل ان نبأ زيارة احدهما وصلت الى الآخر، فتعمد أن يحط رحاله في بيروت في اليوم عينه الذي وصل فيه نظيره اليها، فيعكس ذلك ضمناً رغبة طهران وواشنطن في تصعيد المواجهة والتنافس بينهما تقليدياً لملء فراغ المنطقة الى مرتبة أعلى؟

بالطبع ليس ثمة من سيجد الاجابة الشافية عن هذا التساؤل قبل ان يمر حين من الدهر. لكن الثابت لدى أوساط قدر لها ان تغوص في خفايا الزيارتين ان الديبلوماسيين المحترفين سارعا الى الساحة اللبنانية التي باتت عملياً في حالة وهن سياسي، بعد حال المراوحة والجمود فيها وحال التحولات العالقة في سواها من ساحات المنطقة، ولادراكهما انها (الساحة اللبنانية) ساحة الأضواء الساطعة من جهة، والمنصة التي عبرها تطير الرسائل، ومن خلالها تجس الاحداث وتسبر أغوارها الحاضرة والمستقبلية في لحظة المخاض.

ويكبر البعد إياه، اذا ما علمنا ان الصراع الحاد بين المحورين اللذين يتصارعان على مستوى المنطقة كلها منذ زمن بعيد وتقودهما عملياً طهران وواشنطن، بلغ أشده في الاسابيع الأخيرة، حتى ان ضجيج مطاحن المحورين بات يسمع عن بُعد الى درجة ان ثمة من بات يعتبر ان لحظة معرفة اي من المحورين سيفوز، وبالتالي صار صراعاً وجودياً.

وأهمية الساحة اللبنانية في هذا الصراع المدوي والمتوالي فصولاً، ان لها ارتباطاً وثيقاً بميدان التصارع اللذين يتواجهان على صفيح ساخن جداً الآن، وهما ساحتي سوريا واسرائيل.
لم يعد خافياً ان الساحة السورية باتت تعيش في الايام القليلة الماضية بين مطرقة الضغوط الخارجية التي ارتفعت وتيرتها أخيراً ارتفاعاً غير مسبوق ولاسيما بعد دخول واشنطن مباشرة على خط هذه الضغوط واستخدامها خطاباً ذا مصطلحات غير معهودة ومألوفة، وسندان التظاهرات والمسيرات المتنقلة المواكبة لاحداث عنف مقصودة من "المتمردين".

ولقد بات جلياً ان الضغوط الغربية على النظام السوري باتت تشكل أكثر من 75 في المئة من الحدث السوري، في حين يشكل الحراك الداخلي نسبة الـ25 في المئة المتبقية، ولاسيما بعدما نجح النظام في دمشق في توجيه ضربات موجعة الى الشريحة المعترضة التي وضعت الحراب على جدول اعمالها وسيلة لمواجهة هذا النظام.

وفي المقابل، فإن التظاهرات المنظمة بدقة التي انطلقت صبيحة 15 ايار الماضي الى الحدود مع الكيان الاسرائيلي سواء في الجنوب اللبناني أو في الجولان السوري المحتل، فإن ثمة من لاحظ أن في طياتها رسالة ذات وجهين بعث بها "محور المقاومة والممانعة" الى من يعنيه الأمر.

الوجه الأول لهذه الرسالة انها تدحض عملياً فكرة أن هذا المحور بات تحت وطأة النار التي تستهدفه وصار في وضع العاجز عن الحراك والقاصر عن الفعل، كما روّج البعض، ولا سيما بعد اندلاع الاحداث في سوريا.
وعليه، فقد أوحى هذا المحور انه قادر على استعادة زمام المبادرة، بل أن في مستطاعه ان يبادر هو الى اطلاق النار ويضع خصومه في زاوية الاحراج وموقع رد الفعل.
أما الوجه الآخر من رسالة 15 أيار الماضي، ففحواه ان مكونات هذا المحور اذا ما اعتبر أن حركة "حماس" ما زالت في عداده، جاهزة للقيام بهجوم وقائي يكسر قواعد اللعبة، اذا ما مضى الآخرون في السعي لإسقاط النظام السوري بعد الاطباق عليه ومحاصرته، وعليه لم يكن أمراً عابراً ان تتحرك جبهة الجولان فجأة بعد مضي نحو 40 عاماً على سيطرة الهدوء شبه التام على شعابها.

واتكاء على كل هذه الوقائع فإن ثمة من يرى ان زيارتي فيلتمان وشيباني للعاصمة نفسها في اليوم ذاته تنطويان على الآتي:
– ان العاصمتين اللتين يمثلانهما تريدان أولاً ان تؤكدا لحلفائهما على ساحة بيروت، وامتداداً الى خارج المنطقة انهما في الحسبان، وان الصراع والتجاذب مستمران، اي ان المعركة بينهما لم تضع اوزارها بعد، بل ان ثمة من المستجات والتطورات ما يستوجب شحذ الهمم لقابل الأيام.

– إن الديبلوماسيين أتيا الى بيروت ليستجليا بطبيعة الحال تداعيات تطورات الأسابيع الأخيرة، سواء على الحدود أو في داخل سوريا على مآل الاوضاع على الساحة اللبنانية وعلى وضع قوى هذه الساحة، واستعداداتها لمفاجآت الساعة المقبلة الآتية لا ريب. وبمعنى آخر، أتيا ليقفا على نتائج الضغوط التي مارستها حكومة كل منهما على الآخرى، عبر ميدان معين وكيف يمكن استثمارها والبناء عليها لاحقاً.
– ان أحدهما يريد أن يوجّه الى الآخر رسالة معينة تتصل بقابل الأيام، وما في ظهر الغيب.
وعليه لم يكن مفاجئاً بالنسبة الى الذين قدر لهما في بيروت ان يطلعا على كنه ما حمله الديبلوماسيان الى بيروت، ان يخرجا بانطباع فحواه ان أوضاع الساحة اللبنانية كانت في الدرجة الدنيا من محادثاتهما.
وكذلك لم يكن غريباً ان يخرج هؤلاء بانطباع الخائف من سخونة الصيف المقبل، لأن كلا من العاصمتين تتعاطى مع الوضع على أنه صراع وجودي.
وعليه فإن هؤلاء يصلون الى استنتاج فحواه أما ان الأمور ستبلغ في الاسابيع المقبلة حد تداعي كل اركان اللعبة السابقة المعهودة ومعاييرها، وبالتالي ولوج المنطقة تجاذباً من نوع آخر، أو أن الأمور ستعود القهقرى، وبالتالي اعادة الى قواعد اللعبة السابقة، عبر تجديدها و"تهجينها" بتفاهمات جديدة وخصوصاً أن فكرة اسقاط نظام بشار الأسد سقطت والتركيز هو على تطويعه.
يبقى ان اللافت هو اختيار الموفد الاميركي رئيس "جبهة النضال الوطني" النائب وليد جنبلاط لنقل الرسائل، بعدما كلفته مواقع في دمشق أن يؤدي دور وزير خارجية فكانت زيارته لباريس. فيما يسجل للموفد الايراني قدرته على الانفتاح على الجميع، من خلال مروحة اللقاءات التي عقدها، وفي ذلك مؤشر جدير بالاهتمام للمرحلة المقبلة.

السابق
سوريا: الضياع
التالي
المستقبل: أوباما يتراجع: حدود الدولة الفلسطينية ليست خط الـ67