سوريا: الضياع

أسوأ ما في الازمة السورية انها تكاد تستقر على حرب استنزاف طويلة المدى بين النظام والشارع، لا يمكن أي قوة أمنية أن تحسمها، وليس هناك أي خيار سياسي يستطيع أن ينهيها. ويتبادل طرفا المعارك الزعم بأنها حرب وجود، لن تتوقف إلا باستئصال الآخر.. مهما كان الثمن باهظا.

وأخطر ما في تلك الازمة، ان ملامح النظام ضاعت بسرعة، وملامح المعارضة لم تتبلور بعد، وسجلت الاسابيع التسعة الماضية حصيلة دموية مفجعة، قاربت الالف قتيل وآلاف الجرحى والمعتقلين والمفقودين، عمقت الشرخ السياسي والطائفي، الموجود أصلا، وأبعدت فرص اللقاء بغير الشارع ورصاصاته القاتلة وهتافاته المدوّية.. وبغير تدخل خارجي مؤثر، يتخذ الآن شكل عقوبات دولية متصاعدة، وهمسات عربية خافتة، تدور حول صورة سوريا المقبلة، التي يجزم الجميع بأنها لن تظل كما كانت قبل مطلع آذار الماضي.

ولعل أدق الاستنتاجات وأغربها عن اللحظة السورية الراهنة هو أن النظام الذي كان شديد الإفراط في التعبير عن الثقة بنفسه وعن قوته وشعبيته، غاب فجأة عن السمع، ولم يعد ينصت لأحد من الخارج، حيث اتسم أداؤه خلال الازمة وقبلها ببراعة استثنائية في خسارة الحلفاء واحدا تلو الآخر، وفي كسب المزيد من الأعداء والخصوم يوما بعد آخر. ولم يكن السبب هو الجهل فقط، ولا الصدمة التي يمثلها خروج شريحة واسعة من السوريين ضده، في احتجاجات لا يزال ينكرها ويعتبرها مجرد «صرعة»، تهدف الى تقليد النموذج التونسي والمصري، أكثر مما تعبر عن خلل حقيقي في إدارة شؤون الدولة والمجتمع في سوريا.

وهكذا أغرق النظام نفسه في عزلة طوعية، حيث لم يعد يستطيع العثور على أي قناة اتصال مع أي عاصمة عربية أو أجنبية، تساعده في تدبر أمور سوريا. حتى طهران نفسها، لم تعد ورقة رابحة كما كان الاعتقاد الشائع، ولعلها اختارت أن تظل خارج الصورة، لكي لا تزيد العبء أو الحرج، مثلما تفادت دمشق أن تستدعيها لكي لا تزيد حدة المواجهة مع الشارع السوري ومع المحيط العربي ومع المراقب الغربي.. الذي يستغرب التهديد الأخرق الصادر من دمشق وحلفائها بأن التغيير في سوريا يعني حريقا هائلا في الشرق الاوسط. وهو تهديد ينم عن مبالغة في تقدير الذات السورية، كما في تقدير الحرص الغربي على تفادي مثل هذا الحريق، الذي سبق أن أشعل الغربيون مثله الكثير خلال الاشهر والاعوام القليلة الماضية وفي بلدان أكثر أهمية من سوريا بما لا يقاس، من دون أن يرف لهم جفن.

أما الاشارة المتكررة الى ان مثل هذا الحريق يمكن ان يمتد الى اسرائيل، فإن نموذج يوم النكبة في الجولان كما في جنوب لبنان، الذي كان أشبه بموقعة الجمل المصرية الشهيرة في ميدان التحرير في وسط القاهرة، لا يوحي بأن الاسرائيليين قلقون لما يجري في سوريا، وما يمكن أن يصل الى حدودهم. المنطق البسيط يفيد بأنهم سعداء بأن تغرق سوريا بأزمتها الداخلية، من دون أن يشعروا بالحسرة على النظام أو بالأسى على الشعب.
السؤال الوحيد الذي تطرحه حرب الاستنزاف السورية الآن، هو تحديد المدى الزمني للفراغ والفوضى، لأنه يحدد حجم الكلفة المرتفعة يوماً بعد يوم.

السابق
السفير: أوباما يهدّد لبنان بالفتنة: “حزب الله” يمارس الاغتيال السياسي!
التالي
ما هو سر تزامن زيارتي شيباني وفيلتمان لبيروت؟