التعديات على المشاعات جنوباً: مؤامرة بصناعة محلية

لطالما تفنن اللبنانيون في استخدام كلمة «المؤامرة» فكانت طبقهم المفضل على مائدة نقاشاتهم أو جلساتهم، كما في الأفراح والأتراح.
ومع تطور مفهومها، تحولت الى نظرية متكاملة، ثم الى سلاح، وأخيراً استقرت في نفوس كثر باتوا يعيشون هذه العقدة، في كل ما يواجهونه من غدرات الدهر لهم. فأمست ملاصقة لكل مصيبة أو كارثة تنزل بهم. أما أبطالها فدائماً هم العدو أو الخصم السياسي، أو الشريك في الوطن، أو الآخر أو المختلف معهم في الدين والمذهب والعقيدة.

لم يجد السياسيون اللبنانيون عائقا في زرع هذه العقدة، في عدد كبير من عقول اللبنانيين البسطاء، فحفظوها عن ظهر قلب.
واحد من أشكال «المؤامرة»، أتحفنا به مؤخراً بعض السياسيين في الجنوب، في معرض مقاربتهم لموجة التعدي على الأملاك العامة والمشاعات في الجنوب. هؤلاء لم يجدوا حرجا في وصف ما يحصل بمؤامرة حاكها للجنوبيين خصم مناوئ في السياسة، وربما تكون الشرارة صحيحة، ولكن…

نجحت القوى السياسية في الجنوب في غايتها، وتوحد لسان حال الجنوبيين في تحميل المسؤولية لـ«راجح»، مخبئين بذلك حقيقة هذه الشبكة المترابطة المؤلفة من القوى السياسية التي أمنت الغطاء وأعطت الضوء الأخضر بالبناء بداية، مرورا بتجار البناء، والمتعهدين وأصحاب مجابل الاسمنت، وصولا الى بعض الضباط الذين لعبوا دور شهود الزور وأحيانا أمنوا الحماية تحت ذريعة عدم توافر القرار تارة والإمكانات تارة أخرى لمنع التعديات، إضافة الى بعض البلديات والمخاتير الذين لم يتورعوا عن تزوير إفادات لمنازل على أنها بحاجة الى ترميم جراء حرب تموز!

ليشرح لنا أصحاب نظرية «المؤامرة»، كيف يكون الجنوبيون ضحايا مؤامرة خبيثة حاكها خصم صيداوي، وهم يتوسلون النبي موسى للعودة الى الحياة حتى يفلق لهم البحر ثانية ليبنوا فيه، بعدما لم يتركوا شاطئاً أو قطعة أرض إلا وبنوا عليها.
لماذا لم تقطع القوى السياسية النافذة الطريق على «المؤامرة» المزعومة، ولماذا غضت وتغض النظر عن الاستباحات، التي نجحت في تصوير جمهور المقاومة كجمهور خارج عن القانون؟ ولماذا لم تتحرك سريعا لتطويقها؟
ما تشيعه هذه القوى عن عجزها في ردع المواطنين، ما هو إلا محاولة لذر الرماد في العيون، فالقاصي والداني يعلم أن لها ما هو أكثر من السلطة، أي المونة على العائلة من رب البيت إلى صغاره. ولها القدرة الكبيرة على استنفارهم وتجييشهم في أي لحظة أرادت، لإبراز قوتها السياسية والانتخابية داخل مناطق نفوذها.

هذه علامة استفهام ستكون في غير رصيد قوى رفعت منذ نشوئها صورة الجنوبي والجنوبية على حد سواء.. فإذا بها تبدو عاجزة أمام شبكة مافياوية جعلت من اللواتي اشتهرن بالوقوف على أسطح بيوتهن يرمين الزيت مغلياً على رؤوس المحتل، مجرد مدافعات عن التعديات على الاملاك العامة، يهجمن على عناصر القوى الأمنية بالحجارة والأحذية.

أما رجل الأمن فلا أحد بات قادراً على ترميم صورته أمام المواطن الذي استنجد به لرفع الضرر عنه، بعدما ارتضى لنفسه أن يكون شريكا في الفوضى ومخالفة القانون، لقاء رشوة زهيدة، يتباهى التجار وأصحاب شركات البناء والمخالفين بتقديمها له.
وكيف يثق المواطن بعد هذه المرحلة بقواه الأمنية، وهو يسمع روايات من عناصرها، عن اتصالات تلقوها من هذا الضابط أو ذاك، يأمرونهم بالإفراج عن شاحنة رمل أو اسمنت، كانوا قد احتجزوها، لان صاحبها «يخصهم».
وكيف لنا أن نصدق تبريرات قادتها، ونحن نرى بأم أعيننا نجاحها في ردع موجة البناء في بلدة الشبريحا ـ صور، ومنعها حتى من دخول كيس اسمنت واحد الى البلدة، فيما تتحول الى مجرد مراقب، ومنسق مع المتعهدين في بلدات أخرى؟
نعم هناك غطاء لما يحصل وهناك «مؤامرة»، لكنها محلية الصنع وأبطالها مقربون من تلك القوى النافذة ومحسوبون عليها ومنتفعون من «خيراتها»، والهدف جمع الثروات على حساب مواطنين تحولوا ضحية لجشع هؤلاء، والكلام عن رفع الغطاء يبقى إعلامياً محضاً، وما يجري يومياً على أرض الجنوب خير دليل.

لا يمكن أن يكون في الجنوب وفي كل المناطق صيف وشتاء تحت سقف واحد، فالمطالبة بالقانون وسلطة الدولة ليست مزاجية، حيث تتعارض المصالح السياسية والانتخابية للبعض، يجهد لمحاربة هذا القانون، وينسفه، وعندما تتواءم، يُنظّر لها ويمهد الطريق للدولة!

السابق
البناء: تحرُّك أكثريّ لمواجهة إملاءات فيلتمان ومعطِّلاته
التالي
لماذا يتفرج العرب؟