“زحف الأحد” إلى الحدود ولعبة “حافة الهاوية” القابلة للتكرار

لا ريب ان عملية الزحف التي تمت الاحد الماضي الى الحدود مع اسرائيل، سواء من جهة لبنان، اي نقطة مارون الراس، او من جهة الجولان المحتل، في مناسبة الذكرى الـ63 للنكبة، هي عملية "ضخمة" أعدت بدقة.

وهذا الوصف ينطبق على العملية من حيث طريقة اعدادها وتنظيمها، أو من حيث ابعادها ومقاصدها القريبة والبعيدة المتصلة بمستقبل الصراع العربي – الاسرائيلي، او لجهة ارتدادات هذا الحدث سواء على اسرائيل نفسها او رعاتها وحماتها في واشنطن، وعواصم الغرب عمومًاً.

فقد تكشفت المعلومات عن ان عملية الحشد والتعبئة ونقل المشاركين الى مارون الراس في اقصى الجنوب اللبناني، او الى الجولان، وامتداداً الى المعابر المفضية الى غزة وقطاعها، هي عملية دقيقة استغرق الاعداد لها اسابيع، وشاركت فيها اكثر من جهة وقوة وتنظيم عربي، حتى ان كثيراً من القوميين واليساريين المتقاعدين في بيروت، فوجئوا قبل فترة بمن طرق ابوابهم عارضاً عليهم فكرة الزحف التي ستبدأ في عرفهم عهداً جديداً من عهود الصراع العربي – الاسرائيلي الذي تنوعت اشكاله وتكونت محطاته، طالباً منهم الدعم المالي لرحلة العودة العكسية نحو الحدود التي عبر منها النازحون قبل 63 عاماً بشكل مأسوي، فعادت الى ذاكرتهم (هؤلاء المناضلون) صورة التبرعات المالية الاولى للعمل الفدائي الذي انطلق بعد نكسة عام 1967.
في البداية "استهول" هؤلاء الأمر، وهم الذين انهكتهم الخيبات الدائمة والمتتالية التي اسقطت احلامهم الكبرى، ولكن سرعان ما عادت النخوة والحمية الاولى تسري في عروقهم عندما وقفوا على جلية الهدف، وايقنوا ان للأمر ابعاداً وتتمات ومغازي كبرى، عابرة للحدود.

وفي الشكل ايضاً، ثمة اهداف اخرى كامنة تتصل باثارة "الحمية النائمة" في نفس الجيل الفلسطيني الثالث والرابع الذي ولد في صقيع الشتات والمنافي وبيوت الصفيح، والذي صارت ارض الاسلاف بالنسبة اليه مجرد اطياف في حكايات وروايات سمعها من الآباء والاجداد، الذين غابوا تاركين فقط تلك القصص ومعها مفاتيح البيوت الحديد الكبيرة التي علاها الصدأ.

اذن ثمة هدف أبعد من مجرد احياء الذكرى لمرام وغايات سياسية تتصل باستغلال القضية التي لم يزل ثقلها وهاجاً، كما قال البعض، فالقصد هو ان لا تنطفئ في نفوس هذا الجيل الذي لم تطأ اقدامه ارضه، جذوة الرغبة في العودة الى ارض الآباء وان تبقى هذه الارض بنظره ارضه السليبة.

والجلي في الأمر، ان تل أبيب هي أول من ادرك هذا البعد "التثقيفي" من وراء تظاهرات الزحف، فلم تستخف بالعملية كلها، كما فعل البعض، بل هالها الأمر، واقرت بخطورة الحدث نفسه، وتجرأ بعض الكتاب الصهاينة الى حد اعتبار الحدث "زلزالاً" أيقظ المراد الذي يخشون منه، من هجعته في القمقم! وبالتالي، فان القيمين على حراك الاحد، ادركوا ان اسرائيل نفسها تهاب هول المشهد، وهي تتخيل قوافل الزحف الجماعي الى الحدود يتكرر، ومعه تتكرر عمليات القتل الجماعي للزاحفين ليحيوا قضية كبرى كان الكثيرون في اسرائيل والغرب، يخالون انها دخلت غياهب النسيان.

فكرة الزحف الجماعي الى حدود فلسطين المحتلة من اكثر من جهة، والاعتصام عندها، ليست بالفكرة الجديدة على الذهن العربي. فكثيرون راودتهم، ومن المفارقات ان آخر من تبنى هذه الفكرة، ودعا الى اعتناقها هو معمر القذافي، ولكن ما كان لهذه الفكرة ان تصبح واقعاً قائماً يلقى هذا الحجم من الاهتمام وهذا القدر من النجاح، واستطراداً هذا الحيز من التجاوب لدى الفلسطينيين لولا بروز مستجدات ما انوجدت اصلاً، لولا "تسونامي" التداعيات العربية منذ حدث تونس مروراً بالحدث الأكثر دوياً وهو سقوط نظام حسني مبارك، اي غياب النظام العربي "المغرق" في ارتباطه بالتوجهات الاسرائيلية والغربية، وبالتالي رؤية مصر وهي تتلمس طريق العودة الى احتضان ولو معنوياً للقضية الفلسطينية، وجعلها اولوية.
فبفعل كل هذه "التحولات" الضاربة عميقاً في بنية الوجدان العربي، نهض في لبنان وسوريا والساحة الفلسطينية (في الداخل والخارج)، وامتداداً في القاهرة، من أعد بصمت لهذا الزحف وعمل على توفير مقومات النجاح له.
ولعل أبرز العوامل التي دفعت القيمين على هذا الفعل:

– ان قوى المقاومة في لبنان وفلسطين اضطرت الى سلوك طريق الزحف، بعدما وجدت ان انظمة عملت وتعمل على محاصرتها، و"تشويه" فكرة العمل المقاوم، تحت شعارات ليس اقلها ان الذين ما زالوا يمتشقون السلاح يقومون بدور وظيفي لخدمة ايران.
– ما كان لسوريا وحلفائها في الساحتين اللبنانية والفلسطينية ان يتعاملوا مع الاسرائيلي بسياسة ايصال الامور الى حافة الهاوية، وبالتالي اللجوء الى الخيار الصعب وهو فتح جبهة الجولان الموصدة باحكام منذ زمن بعيد أمام اي حراك مقاوم، لولا هذا الضغط الثقيل الذي يتعرض له النظام السوري منذ ما يقرب من ثلاثة اشهر، وكأن ثمة قراراً متخذاً بحقه لوضعه امام واحد من خيارات ثلاثة احلاها مر وهي:
1 – إما اضعافه الى حد الانهاك تمهيداً لجعله يستسلم لكل ما يملى عليه من شروط، صارت معروفة ليس اقلها فك كل عرى الاتباط بكل ما له علاقة بالمقاومة.
2 – او جعله يعيش استنزافاً شبيهاً بما عاشته الجزائر بعد 1991.
3 – او الدفع بتركيا لتقوم بدور "المؤدب" للنظام السوري، بعد الاطباق عليه بشتى انواع الحصار.
بالطبع ثمة من يعتبر ان ارتفاع وتيرة الضغوط الاميركية على سوريا اخيراً، هو جزء من الرد الاميركي والغربي على احداث الاحد، ولكن الاكيد ان الذين نظموا "الزحف"، تعاملوا معه على اساس انه نجح، وهم لذلك يعدون لتكراره واعتباره محطة من محطات "النضال" ضد اسرائيل، وهو ما لا يرغب القيمون على الأمر في الخوض في تفاصيله الآن، بانتظار نضج معطيات معينة.

السابق
النهار: ميقاتي يتمسّك بالدستور والاستقرار وحماية الاقتصاد
التالي
الانباء: عون يلتحق بالمتمسكين بميقاتي.. وفيلتمان على الأبواب!