حرب انتهت وأخرى بدأت فصولها

«حرب 2006 انتهت، ولكن أخرى اسمها الحرب العنقودية لم تنته بعد». جملة قالها شاب لبناني يعمل في إحدى شركات نزع الألغام والقنابل العنقودية في جنوب لبنان، وجاءت ضمن البرنامج التلفزيوني الوثائقي «إرث الحرب» لتعبر بكثافة عن حجم الخطر الذي يحيط باللبنانيين المقيمين في تلك المناطق التي زرعتها إسرائيل بالقنابل والألغام وتركت سكانها نهباً لخطرها القاتل والشنيع، بخاصة أن أكثر المتضررين منها غالباً ما يكونون من المدنيين والأطفال.

فبعد أن يصمت دوي المدافع ويترك المقاتلون المواقع خراباً، يبدأ العمل، كما يقول غلبرت تكميتي منسق الأمم المتحدة في البرنامج الذي عرضته «قناة المعرفة» السويدية: «لقد تركوا وراءهم عدداً هائلاً من القنابل المنتشرة في الأرض، وبعد عودة الناس الهاربين إلى قراهم فوجئوا بوجودها وسط مزارعهم أو قرب منازلهم، وأحسوا بخطرها الحقيقي عندما سمعوا دوي انفجار بعضها، وتعرض الكثير من الناس إلى حوادث فظيعة بسببها».

يبدو البرنامج في دقائقه الأولى مشحوناً بحماسة المشاركين فيه من المتطوعين لنزع القنابل العنقودية من قراهم، وغالبيتهم هم من سكان الجنوب، لهذا كانت شهاداتهم فيها الكثير من حرارة الموقف وهاجس الخوف العام. ولكن وبعد الذهاب إلى التفاصيل تبدأ حكاية كل واحد منهم بالتشكل وتأخذ بعداً شخصياً يكشف حقيقة ما يعانونه من صعوبات في حياتهم وفي عملهم الخطر الذي اختاروه بسبب ضغط الحاجة الاقتصادية والبطالة التي ازدادت بعد الحرب.

شركات نزع القنابل العنقودية الخاصة تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة وتوظف لديها عمالاً بأجور مجزية، بعض الشيء، ورغم ما فيها من خطورة يأتيهم الناس طلباً للعمل، وعلي ومريم من بين هؤلاء. كان علي يعمل في محل لصناعة الألمنيوم وبعد الحرب تركه، أما المال الذي أدخره وأراد به الزواج وفتح بيت جديد، تبخر مثل أحلامه بسبب الوضع الاقتصادي الناشئ بعد الحرب، واستغلال بعضهم له برفعهم أسعار المواد الاستهلاكية أضعافاً ومعها إيجارات البيوت، فأضطر، وتحت ضغط الحاجة، العمل وخطيبته في نزع القنابل العنقودية على أمل زواجهم في أقرب فرصة. والمزارع جمال فرحات، وتقديراً لخطورة عمله، أبقاه سراً عن أهله لعلمه المسبق باستحالة تقبلهم فكرة اشتغاله بنزع الألغام، وشابة أخرى تعمل ضمن فريق خاص قالت إنها تفكر في الهجرة إلى الولايات المتحدة وترك العمل وخطورته وراء ظهرها: «أنا افكر بالسفر لخوفي من الموت ومن احتمال انفجار لغم قد يقتلني في أي لحظة». بالمقابل تحمس شباب آخرون للعمل من منطلقات خاصة، وفي المحصلة وجدنا أمامنا ناساً قبلوا العمل مع «الموت» بسبب ضيق سبل العيش، في ظل انعدام شبه كامل للدولة ورعايتها.

وأبعد من القصص الشخصية يذهب جواد متني في عمله التلفزيوني إلى تلمس الجوانب النفسية وطبيعة «الحرب الأخرى» من خلال جمعه معلومات قدمها خبراء في القنابل العنقودية وشهادات حية للاختصاصيين فيها، ومن بينهم نديم خوري الباحث في حقوق الإنسان الذي أشار إلى الجوانب النفسية التي تتركها تلك القنابل: «أكثر ما بقي عالقاً في بالي خلال جولاتي الميدانية هو سعة انتشار القنابل العنقودية المحرمة دولياً، بخاصة تلك التي لم تنفجر بعد، في معظم القرى اللبنانية التي مررنا بها». لقد نجحت إسرائيل في خلق حالة من القلق النفسي عند الجنوبيين مردها سعة نشرها للقنابل. «زرعوها وزرعوا الخوف في قلوب الناس معها، فهي في كل مكان يمشون فيه ولا يعرفون متى تنفجر فيهم».

وأكثر المشاهد تجسيداً لحالة الخوف عند المزارعين تابعناها في الوثائقي عبر تسجيل لبعض يوميات مزارع جنوبي كان يشتغل في حقله وكان يتحسس كل خطوة يخطوها داخله، وتفكيره لا يتوقف باحتمال انفجار لغم أو قنبلة تحت كل نبتة تمر يداه فوقها، لدرجة يبدو للمشاهد انه ومن المستحيل الاستمرار بالعمل في مثل ذلك المناخ الذي يسوده الرعب. وفي مكان آخر ندرك الضغط النفسي على العاملين أنفسهم، ولو كانوا موضع تقدير عند الناس، فبعد انفجار أي قنبلة يضع المتضررون منها غالباً، اللوم عليهم، ويتهمونهم ضمناً بالتقصير. وهذا ما ساد لحظة انفجار قنبلة عنقودية في طفل من قرية السلطانية، مات على أثرها. ليس الأهالي وحدهم من شعر بالحزن والندم، بل حتى بعض نازعي القنابل حين قال أحدهم والحزن يأكل قلبه «لو أسرعنا في بحثنا قليلاً، ربما كنا أنقذنا هذا الطفل». ومن بعده سيسجل «إرث الحرب» جزءاً من النقاشات التي كانت تجرى بين منتزعي الموت أثناء استراحاتهم، وعبرها يدرك المشاهد الحال كلها، والنقد المبطن إلى «حزب الله» وقوة تسليحه. فبينما يعتبرها بعضهم مصدراً للفخر والتباهي يرى فيها الآخر مصدراً لإثارة الحروب مع إسرائيل وما سيرافقها من دمار يشبه الذي يعيشونه اليوم. ومع كل الجدال المثار والقلق من العمل في مهنة خطرة يطرح آخرون خوفهم من احتمال انقطاع أرزاقهم إذا ما أنتهى كما كشف الحوار الهامس بين شابين جنوبيين ( «ماذا سنفعل إذا أنتهت الشركات من عملها وغادرت الجنوب؟» «لا أدري!»).

ومع حيــرة الجــــواب تظهر في نهاية الشريط وعلى خلفيته السوداء أرقام ضحايا القنابل العنقودية في لبنان وتذكرنا بأن دولاً مثل أميركا والصين وروسيا وإسرائيل لم توقع بعد ميثاق الأمم المتحدة الداعي إلى منع استخدام القنابل العنقودية في الحروب، ويقصد «إرث الحرب» هنا وبالطبع ليست تلك التي مضت بل المقبلة منها أيضاً.

السابق
سليمان يلتقي الراعي
التالي
فرعية اللجان ناقشت مشروع تعديل قانون عن التعليم العالي