ثقافة الخوف من إسرائيل

بين تيارات الثورة المضادة التي تضغط بشدة على مصر منذ قيام ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011 ليس هناك تيار أقوى ولا أشد خطورة على مصر وثورتها، وكذلك على كل الثورات العربية ـ ما تفجر منها وما لم يتفجر بعد ـ من التيار الذي يدعو لترك مصر لحالها تنظم شؤونها الداخلية على مهل ومن دون تسرع. ان لا يضغط احد على مصر من اجل فلسطين او سوريا او ليبيا او اليمن او السودان او افريقيا ككل، او اي موقع تعتمل فيه عوامل الثورة.

يقول اصحاب هذا التيار اتركوا مصر تدبر شؤون بيتها الداخلي المصري البحت قبل مطالبتها بأن ترعى شؤون العرب من حولها. وفقاً لهذا التيار مطلوب من الشعوب العربية في مرحلة من أحرج المراحل التي يمكن ان تدفعها نحو مستقبل افضل ووحدة عربية ارفع وأقوى، او تدفعها نحو تقسيم وعزلة، بل تفتت وانهيار، ان تقول لنفسها: اتركوا مصر، إنها في حالة بيات شتوي مع ثورتها. وان هذه الثورة انما نضجت وتفجرت لأسباب داخلية تخص مصر وحدها. اتركوها متقوقعة على ذاتها ويمكن ان تلتحق بكم في مرحلة قادمة لا احد يدري متى تأتي، ومتى تنضج. ساعتها ستكون مصر مستعدة لأن تؤدي دورها القومي العربي أو الإقليمي او العالمي حسبما تسمح الظروف الإقليمية والعالمية.

يلح هذا التيار، في كتابات بعض المفكرين وبعض الساسة وبعض الحزبيين، على ضرورة تجميد نشاط مصر الثوري عند حدود الوطن المصري، وكذلك تجميد تطورات الثورات الاخرى ـ ضد الاحتلال وضد الفساد وضد الاستبداد ـ الى وقت لاحق، الى ان تكون مصر قد فرغت من شؤونها الداخلية وهيأت نفسها للتصدي لمشكلات الوطن العربي الكبير، بظروف وأحوال داخلية أمتن وأكثر ملاءمة.
وفق هذا التيار العاتي الذي لا يصمت ابداً ويلح على آذان المصريين كما يلح على آذان العرب غير المصريين، مطلوب تأجيل الثورات العربية لحساب ثورة مصر، ما دام الاعتقاد السائد هو ان مصر الأقوى والأكبر والأقدر على تقديم الدعم والتأييد للثورات العربية وتوجيه هذه الثورات في الاتجاه القومي السليم. وما دامت الثورة المصرية قد قطعت شوطاً لم تقطعه ثورة عربية اخرى نحو الانتصار الحاسم والنهائي، وبالتالي لا يمكن مطالبتها بأن تتجمد لبعض الوقت الذي قد يقصر، انما قد يطول أيضاً.

فهل هذا معقول أو جائز؟ او فلنتساءل هل هو ممكن عملياً، كما يحاول اصحاب هذا التيار ان يصوروه ممكنا من الناحية النظرية؟
إن اصحاب هذا الرأي، الذي يجد آذاناً صاغية لدى كثيرين وعقولا مستعدة لتقبله لدى اعداد من المثقفين ومن يقتنعون بهذا النوع من الآراء التقسيمية، لا يرسمون اية حدود من اي نوع لهذا التجميد الذي يقصد الى عزل مصر عن ثورات العرب الاخرى، او لهذا التجميد لشؤون مصر العربية والدولية (ولا فرق بين هذه وتلك عندهم) بحجة ان مصر لا تستطيع ان تنشغل بالجبهتين الداخلية والخارجية معاً، وبحجة ان اهتمام مصر بالشأن القومي من الآن، ومع تطورات ثورتها الداخلية بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يمكن ان يطلق عليها قوى السعار الامبريالي والصهيوني فلا تستطيع ان تحقق اهدافها الداخلية، فضلاً عن اهدافها الخارجية.

ومعنى هذا، انه اذا انقضّت إسرائيل على الضفة الغربية لتوسيع سيطرتها العسكرية الاستيطانية لقتل مشروع الدولة الفلسطينية ـ مثلا من بين سيناريوهات إسرائيلية عديدة تلوح في الأفق اليوم ـ فإن مصر لن تكون مستعدة ولن تكون مسؤولة عن الرد على إسرائيل او مقاومة مشاريعها بالطرق الاستراتيجية والسياسية وبأي شكل من اشكال النضال القومي. بالمثل، اذا قررت الولايات المتحدة توسيع قواعدها البحرية في البحر الأبيض المتوسط او في البحر الأحمر امتداداً الى مياه الخليج ـ بحجة الوقوف بوجه الخطر الإيراني المزعوم ـ لا يكون على مصر من واجب قومي او إقليمي الا ان «تعمل إذناً من طين وإذناً من عجين»، كما يقول التعبير المصري الخفيف الظل.

لا يمكن لأحد ان يصرف النظر عن ان مقولات هذا التيار هي نفسها التي استند اليها النظام القديم في مصر حتى تحول رئيسه حسني مبارك الى «كنز استراتيجي» لإسرائيل لا تزال تبكي فقدانه وتحول مصر الى بلد ثوري مستقل. وقد بنيت هذه الاستراتيجية او السياسة الانعزالية التي اضعفت مصر وهوت بمكانتها الى حضيض لم تبلغه حتى وهي تحت الاحتلال البريطاني. لقد دخلت مصر حرب فلسطين ضد العصابات الصهيونية عام 1947 بينما كانت لا تزال منطقة قناة السويس تحت الاحتلال البريطاني وكان نفوذ الولايات المتحدة قيد الزحف الى مصر ومحيطها الجغرافي بعد الحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها الولايات المتحدة مستعرضة عضلاتها العسكرية والاقتصادية قاصدة الى احتلال مكانة الاستعمار البريطاني في المنطقة العربية اولاً والعالم بعد ذلك.

إن التيار الذي يقاوم الآن دوافع الثورة المصرية لأداء دور حتمي في مواجهة اسرائيل ودعم النضال الفلسطيني، وهو يدخل مراحله الحاسمة، هو صورة نكاد ان نقول إنها طبق الأصل من ثقافة الخوف من إسرائيل التي زرعها النظام القديم ورواها لمـدة اربعين عاما في عهدي انور السادات وحسني مبارك حتى قـيام ثورة 25 كانــون الثاني / يناير الماضي. والآن، فإن ما نشهده من صعــود ضغــط هذا التيـار على الوعي الجماهيري المصري يشكل اخطر محاولات الثورة المضادة لعزل الثورة المصرية وإضعافها وإفشال اهدافها القومية والإقليمية والعالمية.

والأمر الذي يعرفه زارعو بذور هذا التيار في البيئة المصرية، ولا يعرفه جانب كبير من الرأي العام المصري الذي يكاد يسلم بأهداف هذا التيار مخدوعاً باهتمامه بأن تتم الثورة عملها الداخلي قبل ان توجه انتباهها نحو الأهداف الخارجية، هو ان الخوف من اسرائيل هي ثقافة عجلت بقيام ثورة مصر حتى لو اننا سلمنا بأن اهدافها الداخلية ـ ترسيخ مبادئ الديموقراطية واقتلاع الفساد من جذوره وإرساء قواعد العدالة الاجتماعية ـ لعبت دوراً أولياً وأساسياً في تكوين مبادئ الثورة ودوافعها وأهدافها. فالحقيقة انه في ظروف مصر، بنوع خاص، لا يمكن الفصل بين ما هو داخلي وما هو خارجي، لأن لمصر دوراً تاريخياً وقومياً بسعة أفقها الجغرافي والسكاني والثقافي يمزج بين اوضاعها الداخلية وأوضاع محيطها العربي.
ولا يزال صحيحاً بالكامل ما قاله جمال عبد الناصر في بيانه الثوري الأول المعنون «فلسفة الثورة»:

«إن العالم كله لا وطننا فحسب هو نتيجة لتفاعل الزمان والمكان …في تصويرنا لأحوال وطننا لا نستطيع ان ننسى عنصر الزمان، فإننا أيضاً وبنسبة متساوية لا نستطيع ان ننسى عنصر المكان… الزمان إذن يفرض علينا تطوره والمكان ايضا يفرض حقيقته… إن قال لي أحد إن المكان بالنسبة لنا هو هذه العاصمة التي نعيش فيها فإني اختلف معه. وإن قال لي احد إن المكان بالنسبة لنا هو حدود بلادنا السياسية فإني أيضاً اختلف معه.

«ولو كان الأمر كله محصوراً في حدود عاصمتنا او في حدود بلادنا السياسية لهان الامر ولأقفلنا على أنفسنا وعشــنا في برج عاجي نحاول ان نبتعد به، بقدر ما نستطيع، عن العالم ومشاكله وحروبه وأزماته تلك التي تقتحم علينا أبواب بلادنا وتؤثر فيــنا من دون ان يكون لنا دخل فيها اونصيب، ولقد مضى عهد العزلة. وذهبت الايام التي كانت فيها خطوط الأسلاك الشائكة التي تخطط حدود الدول تفصل وتعزل. «أيمكن ان نتجاهل ان هناك دائرة عربية تحيط بنا وأن هذه الدائرة منا ونحن منها، امتزج تاريخنا بتاريخها وارتبطت مصالحنا بمصالحها حقيقة وفعلاً لا مجرد كلام؟ أيمكن ان نتجاهل ان هناك عالماً إسلامياً تجمعنا وإياه روابط لا تقربها العقيدة الدينية فحسب وإنما تشدها حقائق التاريخ؟ … وليس عبثاً أن بلدنا يقع في شمال شرق افريقيا ويطل من علٍ على القارة السوداء التي يدور فيها اليوم اعنف صراع … وما من شك ان الدوائر العربية هي اهم هذه الدوائر وأوثقها ارتباطاً بنا».

وهذا بالتحديد ما أرادت الصهيونية العالمية ان تنسينا إياه وأن توجه سلوكنا الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي والثقافي بعيداً عنه، وقد نجحت في ذلك حتى قامت الثورة قبل اربعة اشهر لتعيد الأمور الى نصابها …كما وصفها جمال عبد الناصر.
والواقع الراهن يشهد بأن محاولات الامبريالية الاميركية وحليفتها الصهيونية العالمية كثيرا ما حاولت إيقاع العالم بأسره في وهم الاعتقاد بأن اميركا نفسها لا تستطيع ان تهتم بشؤونها الداخلية والخارجية حين تمر بظروف خاصة. ما أكثر ما نسمع الادّعاء بأن اميركا ستكون مشغولة عن العالم بشؤونها الداخلية في سنة الانتخابات الرئاسية. كل سنة انتخابات رئاسية اميركية نسمع هذه الحجة، مع ان انتخابات الرئاسة لم تمنع اميركا يوماً من ان تحارب في كوريا او فيتنام اوكوبا اوالعراق. كما ان انتخابات الرئاسة لم تحل بين اميركا وبين مد جسور الأسلحة الى اسرائيل لتمكينها من مهاجمة العرب. حدث هذا في عام 1967 وفي عام 1973 .

ولو اننا اخذنا بما يقوله هذا التيار الضاغط لكان علينا ان نوقف نشاط وزارة الخارجية ونشاط الوفد المصري في جامعة الدول العربية، وأن تقصر تحركات وارتكازات الجيش المصري وكل القوات المسلحة المصرية على الشأن الداخلي وحده.
لكن الخدعة نفسها تستمر للتأكيد الزائف بأن مصر ينبغي، وهي مشغولة بثورتها، ان تبقى نائية عن المنطقة العربية، اي عن الدائرة الاولى التي تحيط بمصر بتعبير عبد الناصر قبل ستين عاماً.

ان ثقافة الخوف من إسرائيل، قد تكون واحدة من اصعب العقد التي اورثها النظام القديم للشعب المصري. ويكفي ان يستسلم لهذه العقدة لكي تستمر السياسة التقليدية التي مارسها النظام الذي سقط لحساب الولايات المتحدة وإسرائيل. وهي سياسة سمحت لهذا النظام بأن يدفع امامه نظماً عربية اخرى تحمل نفس سماته وعقده السياسية والنفسية والثقافية فيما يتعلق بإسرائيــل. وقد مارسـت كل هذه النظم سياسة تجاهل الخطر الاسرائيلي طالما أن إسرائيل تتركها من دون ممارسة الاعتداءات عليها بين حين وآخر. وهكذا اصبــحت في الوطن العربي كتلة من النظم التي تعتنق ثقافة الخوف من اسرائيل وتبث هذه الثقافة نفسها في الشعوب التي تحكمها عن طريق خلق عداوات مصطنعة بديلة عن العداء للسلطة الصهيونية الحاكمة في إسرائيل.

هكذا اصبحت إيران عدواً بديلاً عن العدو الاسرائيلي في ثقافة سياسية دأبت النظم العربية الملكية والإماراتيــة والجمـهورية على بثها في عقول الشعوب. ولم تخترع هذه النظم بعد وسيلة لإقناع الشعوب بإن عداءها لإيران هو الذي يمكن ان يسيــر جـنباً الى جنب مع الأهداف الداخليـة لهذه النظــم، من نوع زيادة الأجــور والمرتبات في محاولة لوأد الثورة في مهدها او حتى وهي لا تزال في مرحلة جنينية في احشاء المجتمع. ووفقاً لهذه الثقافة فإن إسرائيل ليست مصدراً للخوف لأن التحالف مع الولايات المتحدة كاف لإبعاد يد اسرائيل عن الامتداد ضد من يتحالف معها. حسبة معقدة لا تصلح لإقناع عقل الثوريين إلا عن طريق محاولة إغراقهم في الحدود الذاتية الداخلية وفي الخوف من العدو البديل الذي لا يحتل ارضاً ولا يطلق تهديداً ولا يحرك أساطيل باتجاه هذه الشعوب (…).
في حالة مصر فإن سقوط النظام القديم أسقط معه ثقافة الخوف من اسرائيل والثورة كفيلة بإسقاط شعارات الانطواء على الذات.

السابق
عائدون…
التالي
تأبين شهيد في البرج الشمالي