السفير: خطوة أميركية كبرى إلى الوراء في تحديد أولويات التسوية الفلسطينية

أعلن الرئيس الاميركي باراك أوباما امس ما يشبه الوصاية الاميركية على الثورات الشعبية العربية المطالبة بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، في ما يبدو انه إجراء وقائي لمنع انتقال تلك الثورات الى التعبير عن العداء الطبيعي لأميركا، الحليفة التقليدية الدائمة لمختلف انظمة الحكم الدكتاتورية العربية، او للحؤول دون وصول التيارات الاسلامية الى السلطة.

وعلى الرغم من ان اوباما تعاطى في خطابه الموجه الى العالم العربي، الثاني بعد خطاب القاهرة الشهير في حزيران العام 2009، مع الثورات العربية باعتبارها ظاهرة واحدة تتحدى عقودا من الطغيان والفراغ والفساد، لكنه اعتمد معايير مزدوجة وأصدر أحكاما متعارضة على نماذجها، فقرر رعاية الثورتين التونسية والمصرية بمشروع اقتصادي ومالي يشبه البرنامج الذي اعتمدته اميركا لمساعدة بلدان اوروبا الشرقية الخارجة من الفلك السوفياتي، وحمل بشدة على العقيد معمر القذافي متوقعا ان تمضي ليبيا بعد رحيله على طريق الديموقراطية، وتحدث باعتدال واختصار عن الثورة اليمنية داعيا الرئيس علي عبد الله صالح الى تسليم السلطة بشكل سلمي، وعن الثورة البحرينية التي ربطها بإيران، ودعا

السلطة البحرينية الى الافراج عن المعارضين المعتقلين والحوار معهم، لكنه شن هجوما لاذعا على سوريا ورئيسها وحثه للمرة الاولى على قيادة عملية الاصلاح او التنحي جانبا، واشار مجددا الى تورط ايراني في قمع المعارضة السورية، وتفادى طبعا بقية الدول العربية التي تشهد انتفاضات شعبية مهددة بالقمع مثل السعودية التي لم يأت على ذكرها.

ولعل أغرب ما في خطاب اوباما انه قدم العراق باعتباره نموذجا محتملا للعالم العربي كله، حيث رأى انه جرى تنظيم عملية سياسية واعدة، متجاهلا الحرب الطائفية التي اطلقها الاحتلال الاميركي طوال السنوات الثماني الماضية، والتي لا تزال تشكل واحدة من اخطر التهديدات للاستقرار في العراق وفي العالمين العربي والاسلامي على حد سواء.

لكن خطاب الوصاية او بتعبير أدق المصادرة الاميركية للثورة العربية، بدا انه يغطي عجزا سابقا عن مواكبة حركة الشارع العربي وعن التنبؤ بوجهته النهائية، خصوصا وانها تمس الكثيرين من حلفاء اميركا ومصالحها الحيوية وسياساتها التقليدية، ويخفي محاولة اميركية لتطمين الحليف الاستراتيجي الاهم، اسرائيل التي تتوجس من تلك الثورات، وما انتجته على الصعيد الفلسطيني من مصالحة وطنية بين حركتي فتح وحماس، أبدى اوباما امس تحفظه الصريح عليها وطالب الفلسطينيين والعرب بالرد على الاسئلة الاسرائيلية المطروحة حول مضامينها وأبعادها.
على ان اوباما تخطى هدف التطمين لاسرائيل عندما رسخ للمرة الاولى فكرة الدولة اليهودية وتبنى موقف حكومة بنيامين نتنياهو الذي سبق ان خالفه طوال الاعوام الثلاثة الماضية حول طريقة تعامله مع الجانب الفلسطيني، فأسقط مطالب أميركية سابقة بوقف الاستيطان واحجم عن عرض اي دور اميركي في الوساطة أو حتى في استضافة التفاوض او في تكليف مبعوث بديل للموفد المستقيل جورج ميتشل، للمتابعة، واعلن التزاما اميركيا متجددا بالاولويات الاسرائيلية لاي مفاوضات، وهي الامن والحدود، وتأجيل البندين الاشد حساسية، اي القدس واللاجئين الى مرحلة لاحقة، وختم بالقول ان المسؤولية تقع منذ الان فصاعدا على اللجنة الرباعية العربية والمجتمع الدولي والعالم العربي، لرعاية العملية التفاوضية التي احتلت مكانة ثانوية في خطاب اوباما الذي قيل انه يستهدف كسب الشارع العربي، باستثناء الشارع الفلسطيني، وايضا الشارع السعودي والمغربي والاماراتي ..
ومن واشنطن، كتب مراسل «السفير» الزميل جو معكرون:

من قاعة بنجامين فرانكلين في الطابق الثامن من وزارة الخارجية في «فوغي بوتوم» وعلى مدى 45 دقيقة، ألقى الرئيس الاميركي باراك اوباما خطابه الموعود عن الشرق الاوسط بأفكار يمكن اختصارها بأن إدارته ستجعل الاصلاح اولوية مع الصديق والعدو بالتزامن مع مبادرة سلام خجولة تقايض دولة فلسطينية منزوعة السلاح بحدود 1967، بأمن اسرائيل وحق الدفاع عن نفسها مع تأجيل التفاوض على مصير القدس المحتلة واللاجئين.

وفي خطاب تأخر 35 دقيقة عن موعده، رأى اوباما ان ركائز المصالح الاميركية على مدى عقود في الشرق الاوسط كانت «مكافحة الارهاب ووقف انتشار الاسلحة النووية وتأمين التدفق الحر للتجارة وحماية امن المنطقة والوقوف لأمن اسرائيل والسعي الى سلام عربي اسرائيلي» وتابع قائلا «مع ذلك يجب ان نعترف ان استراتيجية تعتمد فقط على السعي الضيق لتلك المصالح لن تملأ معدة فارغة او تسمح لشخص ان يعبر عن نفسه. علاوة على ذلك، سوف يغذي الفشل في الحديث عن التطلعات الأوسع للناس العاديين الشك الذي تأصل على مدى سنوات بأن الولايات المتحدة تسعى لمصالحها الخاصة على حسابهم. نظرا لانعدام الثقة الذي يسير على الجهتين، بما انه طبع الاميركيين من خلال احتجاز الرهائن والخطاب العنيف والهجمات الارهابية التي قتلت الالاف من مواطنينا. فشل تغيير مقاربتنا يهدد بتعميق دوامة الانقسام بين الولايات المتحدة والمجتمعات الاسلامية».

وذكر اوباما انه مع مواصلة تحقيق المصالح الاميركية التقليدية، يشكل ما يحصل في المنطقة فرصة لتظهر الولايات المتحدة على انها «تقدر كرامة البائع المتجول (محمد بوعزيزي) في تونس اكثر من قوة الديكتاتور». واكد ان اعتراض واشنطن على استخدام العنف ضد الشعوب ودعم حرية التعبير والتجمع السلمي والحرية الدينية والمساواة بين الرجل والمرأة في القانون والاصلاح السياسي والاقتصادي كلها «ليست مصلحة ثانوية. انا اوضح ان هذا الامر على رأس اولوياتنا ويجب ترجمته بأعمال ملموسة ودعمه بكل الادوات الدبلوماسية والاقتصادية والاستراتيجية بتصرفنا». ولفت اوباما الى ان الاحداث التي بدأت قبل ستة اشهر «تظهر لنا ان استراتيجيات القمع لن تعمل بعد الآن»، مشيرا الى ان تغييرات بهذا الحجم «لن تأتي بسهولة» بل ستمر سنوات «قبل ان تصل هذه القصة الى خاتمتها».

وبعد التركيز على دعم كل من تونس ومصر كنموذج لانجاح المرحلة الانتقالية الديموقراطية، اعتبر اوباما ان «الوقت يعمل ضد» الرئيس الليبي معمر القذافي وانه لا يسيطر على بلاده والمعارضة «نظمت نفسها في مجلس انتقالي شرعي وذات مصداقية. وعندما يغادر حتما القذافي او يخرج قسرا من السلطة، عقود من الاستفزاز ستنتهي والمرحلة الانتقالية الى ليبيا ديموقراطية يمكنها ان تمضي قدما». وانتقل بعدها الى سوريا معتبرا ان امام الرئيس بشار الاسد خيارين «يمكنه قيادة المرحلة الانتقالية او الابتعاد عن الطريق. على الحكومة السورية وقف إطلاق النار على المتظاهرين والسماح بتظاهرات سلمية واطلاق سراح السجناء السياسيين ووقف الاعتقالات غير العادلة والسماح لمراقبي حقوق الانسان بالدخول الى مدن مثل درعا وبدء حوار جدي لتقدم المرحلة الانتقالية الديموقراطية. وإلاّ سيتواصل التحدي للرئيس الاسد ونظامه من الداخل وستتواصل العزلة من الخارج». واعتبر ان سوريا «تتبع حليفها الايراني وتسعى لمساعدة من طهران في تكتيكات القمع».

وبعد التأكيد على رفض واشنطن لبرنامج ايران النووي، اعتبر اوباما ان هذه المبادئ الاميركية تنطبق على حلفاء واشنطن في المنطقة ايضا، مشيرا الى ان الرئيس اليمني علي عبد الله صالح لم يلتزم بقرار نقل السلطة وفي البحرين «نحن ندرك ان ايران حاولت الاستفادة من الاضطراب هناك وان الحكومة البحرينية لديها مصلحة مشروعة في حكم القانون لكن الاعتقالات الجماعية والقوة الغاشمة هي على خلاف مع الحقوق الكونية لمواطني البحرين ولن تجعل دعوات الاصلاح المشروعة تذهب». وقال اوباما «الطريق الوحيد للمضي قدما هو ان تنخرط الحكومة والمعارضة في حوار ولا يمكنك ان تجري حوارا حقيقيا حين تكون اجزاء من المعارضة السلمية في السجن» واضاف «حتى لو نقر بأن كل بلد مختلف، علينا ان نتحدث بصراحة حول المبادئ التي نعتقد بها، مع الصديق والخصم على حد سواء». ولم يتطرق اوباما الى الوضع في لبنان، ولا الى العلاقة مع السعودية في ظل تقارير عن توسيع الروابط العسكرية بين البلدين لتطوير نظام الدفاع الجوي وتشكيل قوة خاصة من 35 ألف عنصر على الاقل يدربها الطرف الاميركي لحماية البنى التحتية النفطية.

وعلى صعيد المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية، ذكر اوباما انه لا يوافق على فكرة انه في ظل التغييرات في المنطقة لا يمكن المضي قدما في عملية السلام، لكن من دون طرح مبادرة سلام جدية بجدول زمني، اي انه حاول التوفيق بين وجهات نظر مستشاريه. واعتبر ان جهود الطرف الفلسطيني «لنزع الشرعية عن اسرائيل ستنتهي بالفشل. الاجراءات الرمزية بعزل اسرائيل في الامم المتحدة في ايلول (المقبل) لن تؤسس دولة مستقلة. القادة الفلسطينيون لن يحققوا السلام والازدهار اذا اصرت حماس على طريق الارهاب والرفض. ولن يحقق الفلسطينيون استقلالهم بحرمان اسرائيل حق الوجود». وبعد التشديد على التزام واشنطن بأمن اسرائيل، قال اوباما «على وجه التحديد بسبب صداقتنا، من المهم ان نقول الحقيقة. الوضع الراهن ليس مستداما وعلى اسرائيل التصرف بجرأة لتحقيق سلام دائم». واضاف «المجتمع الدولي تعب من عملية لا نهاية لها لن تؤدي ابدا الى نتيجة. حلم دولة يهودية وديموقراطية لا يمكن تحقيقه من خلال احتلال دائم».

لكنه اعتبر ان قرار سلوك طريق المفاوضات «يعود الى الاسرائيليين والفلسطينيين» معتبرا ان ارضية المفاوضات هي دولة فلسطينية ضمن حدود العام 1967 مع اتفاق لتبادل الاراضي مع حق الفلسطينيين «بحكم انفسهم في دولة سيدة ومتواصلة جغرافيا» ويجب ان يكون لاسرائيل «قدرة الدفاع عن نفسها بنفسها ضد اي تهديد» متحدثا عن بنود «قوية بشكل كاف لمنع تجدد الارهاب ووقف دخول الاسلحة وتوفير امن فعال للحدود». ولفت الى ان تنسيق انسحاب القوات الاسرائيلية «الكامل والمتدرج يجب ان ينسق مع افتراض تسلم الامن الفلسطيني مسؤولية دولة سيدة منزوعة السلاح. مدة هذه الفترة الانتقالية يجب الاتفاق عليها ويجب اظهار فعالية الترتيبات الامنية». ودعا القادة الفلسطينيين الى «توفير رد ذات مصداقية» على مسألة المصالحة الفلسطينية حول كيف يمكن لحركة «حماس» ان تفاوض وهي ترفض الاعتراف باسرائيل.

السابق
وليامز قلق من تكرار مارون الراس
التالي
“الخليلان”.. نجما الأزمات والحلول اللامعان في سماء السيد والأستاذ