الممانعة الصفوية انتظرت زحفاً “فاطمياً” فأتاها ما لم يكن بالحسبان!

للممانعة تاريخ. يعني ذلك أنّ لها أوّلاً وآخراً.
أمّا الأوّل فيبدأ منذ إعادة إستخدام المصطلح في غير وجهته الأصلية.
فالمصطلح مستقى أساساً من مقدّمة إبن خلدون حيث الحديث عن الممانعة على أنّه ما تظهره العصبية الخشنة في وجه عوامل الإغراء والتحلّل التي تحاصرها في الحضر. كان القصد من الإستخدام النخبويّ للمصطلح في بداية الثمانينيات من القرن الماضي هو إنفتاح بعض المثقفين على نزعات معاداة التمدين والتحديث بحجّة أنّها نزعات أصيلة في تاريخ مقاتلة الإستعمار والرجل الأبيض.

ثم توسّع الحقل الإستعماليّ لمصطلح الممانعة. دخل الحيّز السياسيّ مع بداية التسعينيات. يومها، لم تعد "جبهة الرفض" قائمة بوجه فكرة التسوية الإقليمية. وصارت "الممانعة" خير توصيف للموقف الذي يقبل بفكرة التسوية الإقليمية ويرفضها في آن، والذي يضع نفسه داخل عملية السلام وخارجها في الوقت نفسه، وكلّ ذلك في إطار نظرية أنّ "الصراع" يمكنه أن يتخذ أشكالاً جديدة لكنه لن ينتهي.
ومع التدخّل الأميركيّ في العراق، استكمل مصطلح الممانعة حقله الدلاليّ، وصار يعني منظومة إقليميّة، أي نظامين "ممانعين" وفصائل "مقاومة".

وهذه المنظومة نجحت في انتاج تقاطع استراتيجيّ بين أركانها حول المسألة العراقية، حيث وجدت المنظومة ككل نفسها مستفيدّة مما نتج عن الإحتلال الأميركيّ لأفغانستان والعراق. لكنها وجدت نفسها محاصرة أيضاً بفعل الإحتلال الأميركيّ لأفغانستان والعراق، وأيضاً بفعل المخاض الديموقراطيّ العراقيّ نفسه.

وخاضت هذه المنظومة على طريقتها غمار الجولة الأخيرة من الصراع العربيّ – الإسرائيليّ. هي الجولة المتفرّعة إلى حرب تمّوز ثم حرب غزّة. النتيجة الإجمالية لهاتين الحربين كانت إيضاح أزمة الآلة الحربية الإسرائيلية أمام هذا النوع من التحدّيات، ومن جهة ثانية إفراز وضعيات سواء في جنوب لبنان أو في قطاع غزّة تخمد بنتيجتها آخر الجبهات الساخنة بين العرب وإسرائيل.

بعد ذلك كان على منظومة الممانعة أن تواجه التحدّي الديموقراطيّ في عقر دارها، إنطلاقاً من "الثورة الخضراء" للشعب الإيرانيّ المظلوم بوجه نظام الملالي و"هيملر الشرق" محمود أحمدي نجاد. وكان سبق للمنظومة نفسها أن تواجهت مع التحدّي الديموقراطيّ ولو بشكل أكثر تعقيداً ومحلويّة من خلال الوضع في لبنان.

تمكّن الفرع الإيرانيّ من منظومة الممانعة من إحباط "الثورة الخضراء" خصوصاً وأنّ هذه الأخيرة جاءت مكبّلة بقيادات متردّدة تأخّرت كثيراً في القطع مع نظام الملالي، هذا إن قطعت. ثم اعتمد الفرع الإيرانيّ للمنظومة على الإختلال الشديد في ميزان المعادلات المذهبية في المنطقة نتيجة للإحتلال الأميركيّ للعراق، وللإحتكار الفئويّ للسلاح في لبنان، ولطبيعة منظومة الممانعة نفسها، وللجمود الحاصل في منظومة الإعتدال من جهة أخرى، وأدّى كلّ ذلك إلى إظهار منظومة الممانعة بمظهر "القويّ" المتقدّم على كافة الجبهات، وزاد الطين بلّة إنشغال العالم وفي مقدّمته أميركا بالأزمة المالية العالمية.

وعلى هذا النحو، تعاملت منظومة الممانعة مع الربيع التحرّري العربيّ منذ "ثورة الياسمين" التونسية على أنّه تدشين لـ"الإمبراطورية الممانعاتية العظمى" التي تقودها طهران، وأوهمت المنظومة نفسها أنّ "الزحف الفاطميّ" الآتي من تونس إلى مصر، ولو من دون جوهر الصقليّ هذه المرة، لن يلبث حتى يلاقي "الزحف الصفويّ" الآتي من طهران بإتجاه البحر المتوسّط.
أقلّ ما يمكن قوله اليوم أنّ الممانعة انتظرت شيئاً ودهمها شيء آخر تماماً، وأنّه بدلاً من التقاء الزحفين الفاطمي الجديد والصفويّ الجديد حدث ما لم يكن بالحسبان: الزلزال التحرّري لا ينحصر في الأنظمة المعتدلة دون الممانعة.

أكثر من ذلك، ما كان لهذا الزلزال التحرّري أن يطاول منظومة الممانعة بالشكل الذي بات يهدّد وجودها لو لم تبادر الممانعة الى محاولة مسخ المشهد الربيعي العربيّ إلى "زحف صفويّ" إنطلاقاً من أحداث البحرين بقصد ملاقاة "الزحف الفاطميّ الجديد" المزعوم الذي اعتقد الممانعون أنّه استعار طريق قدوم الجيوش الفاطمية بقيادة جوهر الصقليّ من تونس إلى مصر.
لقد كان التقاء الزحفين "الصفوي الجديد" و"الفاطمي الجديد" هو المسكوت عنه في خطاب الممانعة في أشهر إغتباطها بالإنتفاضات العربية، ثم صار هذا المسكوت عنه سبباً أساسياً لنكبة الممانعة، بعد أن حاولت مصادرة الزلزال التحرّري العربيّ لحسابها، فكانت النتيجة أن نشب بين ظهرانيها.

السابق
فضيحة العصر
التالي
مجموعة عمل إسبانية – إيطالية تراجع عديد “اليونيفيل”