فرصة باراك في السلطة

في حفل الاستقبال للجنود المتفوقين في المقر الرئاسي في يوم الاستقلال، طلب من رئيس الدولة، رئيس الحكومة، وزير الدفاع ورئيس الأركان أن يختاروا لأنفسهم أغنية وأن يغنوا ببث حي مع المغنين المشاركين في الحفل. اختار إيهود باراك أغنية «هائنذا هنا» لحاييم حيفر ودوبي زيلتسر، وهي الأغنية المعروفة بأداء يورام غاؤون. وغنى باراك مع الفرقة «أنا عائد من أرض غير مزروعة، أنا أعود من ألف تناسخ. أنا الرجل الذي يعود دائماً، يعود».
وكل من قرأ المقابلة التي منحها وزير الدفاع لغيدي فايتس في ملحق «هآرتس» في الأسبوع الفائت، لا ينبغي أن ينتابه شك: مثل بطل أغنية حيفر وزيلتسر، ينشغل باراك بعودته الكبيرة. ورغم أنه لم يعبر عن طموحاته في المقابلة، إلا أن من الجلي أن باراك يخطط لعودته لرئاسة الحكومة ويؤمن أن لديه فرصة جيدة لخلافة بنيامين نتنياهو.

في هذه الأثناء يعدّ نتنياهو الأرضية. هنا ثلاثة نماذج، جميعها من الأسبوع الأخير. المقابلة الموسعة مع غيدي فايتس، والتي حاجج فيها باراك ضد المزاعم حول كراهية الجمهور له وحول غناه والشقة في برج أكيروف. كما أن خطابه في مساء يوم الاستقلال، في الحفل السنوي لوزارة الدفاع، والذي دعا فيه نتنياهو لعرض خطة سياسية تشمل الانسحاب من الضفة الغربية، وأعدّ لنفسه ذريعة الهرب من الحكومة. ومؤتمر التأسيس الذي عقده أمس لحزبه الوهمي «الاستقلال»، الذي يعد باراك بأن يتنافس ممثلاً عنه في الانتخابات المقبلة.

وفي هذه النقطة يبرز السؤال: إيهود باراك؟ عودة؟ الرجل غير المحتمل الذي ينال صفراً في استطلاعات الرأي ويتشاجر على الدوام مع المحيطين به؟ الشريك الضعيف لنتنياهو، الذي يكثر من الحديث معه ويتجاهل نصائحه؟ نعم. باراك ذاته. لأن باراك هو الوحيد الذي يعرض بديلاً لسياسة «ولا شبر» التي ينتهجها الليكود وافيغدور ليبرمان، ولديه اقتراح مدعوم بخبرة، بكاريزما وبعرض مقنع للواقع الاستراتيجي. وإذا وصل التسونامي السياسي الذي يحذر باراك منه، وأدينت إسرائيل وعزلت في العالم جراء رفضها الخروج من المناطق وإنشاء فلسطين فيها، فإن الجمهور سوف يبحث عن بديل لسياسة قلعة المتسادا ويبتعد عن حكومة اليمين. وبتصرف سليم يمكن لباراك أن يقطف الحكم.

وسيقول المشككون أنه لا يملك حزباً وليس لديه أنصار. وهذا صحيح، لكنه غير مهم. فالزعماء التاريخيون الذين يعجب باراك بهم – وينستون تشرتشل، شارل ديغول، موشيه ديان – يستدعون لإنقاذ الوطن في أوقات الأزمات بسبب شخصيتهم وخبرتهم، وليس بفضل المؤامرات والأعضاء الحزبيين. وقد تقلب ثلاثتهم بين الأحزاب وفق مقتضيات اللحظة، وتجاهلوا البرامج والمؤسسات. ويمكن أيضاً أن تضم لهذه القائمة اسم أرييل شارون. وعندما دعي هؤلاء للإنقاذ، تكيفت الحلبة السياسية معهم، وانطلق الرأي العام في لحظة من الاحتقار إلى الإعجاب. ويمكن ان يحدث هذا لإيهود باراك. واضح أن هذا نموذجه.

ومن أجل انتخابه رئيساً للحكومة من جانب اليسار ينبغي له أن يمزج بين الاعتدال السياسي، على الأقل لفظياً، بالتشدد الأمني ويستحسن أيضاً أن يحمل رتبة جنرال. وليست هناك صيغة أخرى. يكفي أن تسمع صرخات الفرح في اليسار عند عودة عميرام متسناع، الجنرال احتياط لطيف الكلام، للتنافس على زعامة حزب العمل. ومع كل الاحترام للكلام الفارغ الاشتراكي الديموقراطي، فإن هذا الكلام لا يعني أحدا. فحزب العمل يريد قائدا على رأسه، وليس عاملا اجتماعيا. بل إن ولاية عمير بيرتس المربكة كوزير للدفاع في حرب لبنان الثانية تساعده حاليا في حملته الانتخابية. ويتفوق متسناع وبيرتس على الآخرين في المنافسة، والمرشحون «المدنيون» تبخروا.
إن عودة متسناع وبيرتس للمنافسة يثبت مرة أخرى أن هناك على الدوام في السياسة في إسرائيل فرصة ثانية وثالثة ورابعة. وإخفاقات الماضي تعتبر رسوماً تعليمية لزعماء المستقبل. ومع كل الاحترام لمتسناع، فإن باراك يعرض ملفا أمنيا، سياسيا وعاما أشد إثارة. كما ان باراك أفلح في الإفلات من مؤسسات حزب العمل وأنشأ حزبا خاصا وبلجنة تنظيمية، كما في أحلام متسناع. ومطلوب الآن فقط أزمة قومية تعيده إلى القيادة. لأنه في لحظة الحقيقة سوف ينسى الجميع له الشقة في برج أكيروف، مثلما غفروا لديان سرقته للآثار وخياناته الزوجية عندما احتاجوا إليه عشية حرب الأيام الستة، ولم يتذكروها إلا عند تحطمه في حرب يوم الغفران.

التحرير في الناصرة
ثمة مورد غير مستغل في السوق السياسي الإسرائيلي: الناخبون العرب. وإذا خرج هؤلاء بجموعهم للتصويت في الانتخابات المقبلة، فإن بوسعهم إحداث انقلاب لم يسبق له مثيل في تركيبة الكنيست. فكتلة عربية من 16-17 عضو كنيست سوف تغيّر ميزان القوى بين اليمين واليسار، وسترسم من جديد الكتل السياسية. وستقف الحلبة السياسية أمام معضلة: هل ستتوحّد الأحزاب الصهيونية وتتخندق خلف برنامج ليبرماني، من أجل صدّ «الخطر العربي»، أو أن يشرك المعسكر اليساري الكتل العربية في الحكم وتقترب إسرائيل من «دولة كل مواطنيها»؟

وفي الانتخابات الأخيرة للكنيست في آذار 2009 شارك فقط 53,6 في المئة من أصحاب حق الاقتراع العرب. وكانت نسبة التصويت العامة 64,7 في المئة (وفق تقرير المعهد الإسرائيلي للديموقراطية). ونسبة التصويت عند العرب كانت في تراجع مستمر في العقد الأخير، تعبيراً عن الخيبة من المنظومة السياسية ومن الدولة.

غير أن التصويت الضعيف للكنيست لا يشير بالضرورة إلى لا مبالاة سياسية لدى الجمهور العربي في إسرائيل. وفي الانتخابات للسلطات المحلية، التي جرت قبل أربعة شهور من الانتخابات العامة، تمّ تسجيل مشاركة أكبر في هذا الوسط. ها كم بعض نماذج: في الناصرة صوت 34 ألف شخص مقارنة بـ 22 ألفاً فقط صوتوا للكنيست. في أم الفحم صوت 20 ألفاً للبلدية ولكن 14 ألفاً فقط للكنيست. وفي راهط صوت 18 ألف للبلدية ولكن فقط 7800 ناخب للكنيست. والخلاصة واضحة: المواطنون العرب يعرفون جيداً موقع صناديق الاقتراع. لكنهم يمتنعون عن المشاركة في اللعبة السياسية الإسرائيلية (والأمر معكوس في الوسط اليهودي حيث المشاركة في الانتخابات البلدية ضعيفة مقارنة بانتخابات الكنيست).
ومقارنة بالماضي، فإن الانتخابات المقبلة ستسهل مهمة تجنيد الناخبين العرب حول برنامج مشترك، حتى لو استمر الانقسام لأحزاب عدة. فتعاظم قوة أفيغدور ليبرمان وموجة التشريعات المعادية للعرب في الكنيست الحالية يمكنها أن تغدو عنصراً مرجحاً: العرب يصارعون من أجل حقوقهم المدنية، التي تسعى حكومة اليمين لانتزاعها منهم. كما أن المحيط الخارجي يعمل لمصلحة المشاركة والاهتمام: الثورات الشعبية في الدول العربية واتفاقية المصالحة الفلسطينية يمكنها أن توفر مثالاً للجمهور العربي في إسرائيل. فالتصويت الواسع في انتخابات الكنيست سيشكل ميدان تحريرهم.

فنسبة الهجرة من إسرائيل هي أقل بين العرب مما هي عليه بين اليهود، وبالتالي فإن مخزون الناخبين فعليا قريب من عدد أصحاب حق الاقتراع. وهذا يبدو بوضوح من انتخابات البلديات والمجالس المحلية العربية، حيث أن نسبة التصويت فيها تتراوح بين 80-90 في المئة. ولو شارك في الانتخابات الأخيرة 150 ألف عربي آخر لكان بوسعهم كسب خمسة مقاعد أخرى في الكنيست. لقد نالت الجبهة الديموقراطية للسلام خمسة آلاف صوت فقط في تل أبيب. وبوسع حملة ناجحة أن تجلب لها آلافاً عدة أخرى من أصوات اليهود اليساريين، خصوصاً إذا غابت ميرتس.
إن التصويت العربي حاسم لمعسكر اليسار، وهو يقود بدرجة ما إلى صعوده أو انهياره. في انتخابات العام 1992، اختارت اغلبية صغيرة من الناخبين العرب أحزاباً «غير عربية». وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي خلق فيها حزب العمل، ميرتس والأحزاب العربية كتلة مانعة مكونة من 61 عضو كنيست. وصعد اسحق رابين إلى السلطة ووقع اتفاقيات أوسلو. ولكن في الانتخابات التالية، العام 1996، التي جرت في أعقاب انهيار العملية السياسية وموجة العمليات القاسية ضد إسرائيل، تم تسجيل انقلاب. لقد انتخب ثلثا الناخبين العرب أحزاباً عربية.

ومنذ ذلك الحين تعزز هذا الاتجاه. في الانتخابات الأخيرة صوّت 82 في المئة من الناخبين العرب لأحزاب عربية. أما الأحزاب الصهيونية فلم تنل التأييد إلا في القرى الدرزية أو البدوية في الشمال، وهي قرى ينخرط الرجال فيها في الخدمة العسكرية. أما تركيز التأييد في الأحزاب العربية فقد خدمها رغم تراجع نسبة التصويت وزاد من قوتها في الكنيست الحالية من 10 إلى 11 مقعداً، وكان هذا رد فعل على صعود ليبرمان.
وفي ظروف كهذه، فإن معسكر اليسار لا يمكنه العودة للسلطة من دون أن يتنازل: عن برنامجه السياسي وأن يشرك في ائتلافه احزاباً يمينية تفشل العملية السياسية مع الفلسطينيين، أو التنازل في التركيبة العرقية للائتلاف وإشراك العرب في الحكم. لقد اختارت أحزاب اليسار حتى اليوم الخيار الأول، الشراكة مع اليمين والحريديم، وبقيت الأحزاب العربية خارج الحكومة.

إن الخلاف على مكانة الوسط العربي في إسرائيل يقف على رأس جدول الأعمال السياسي للكنيست الحالية. وحكومة نتنياهو ليبرمان، بدعم جزئي من كديما، تحاول قمع المطامح السياسية للمواطنين العرب واعتبارها تآمراً غير مشروع. وإذا نشأ في الكنيست معسكر عربي قوي، فإن الخلاف سيتعاظم. وستتزايد الأصوات الداعية لتغيير أسلوب الحكم وانتهاج نظام رئاسي، أو انتخابات مناطقية للكنيست، أو اعتماد أسلوب يجمع هذا بذاك، من أجل إضعاف الصوت العربي (في الانتخابات الرئاسية لا تعدّ الأصوات الممنوحة للخاسر. في الانتخابات المناطقية، وفي كل الصور تشطب أصوات العرب في المدن المختلطة). وستتزايد أيضاً سلفاً محاولات إخراج قوائم عربية عن القانون.
ولكن أيضا هناك إمكانية أخرى، وهي أن ينمو المعسكر العربي ويتقوى لدرجة أن الإغراء (أو الاضطرار) لإدراجه في الائت`لاف سيتغلب على الأفكار المسبقة والخلافات السياسية. وهذا سيشكل انقلاباً تاريخياً: إسرائيل بزعامة ائتلاف يهودي عربي ستغدو دولة أخرى، يتعاظم فيها الخلاف بين «الدولة اليهودية» و«الدولة الإسرائيلية».

هل مثل هذا الانقلاب ممكن؟ الجواب يرتبط بنسبة التصويت لدى العرب وبموقف زعمائهم. فهل سيكررون في الانتخابات المقبلة مناورة عزمي بشارة، الذي تسجل للتنافس على رئاسة الحكومة العام 1999 ونقش تعبير «دولة كل مواطنيها» في القاموس السياسي، أم أنهم سيواصلون عملية الانطواء والمقاطعة ويتنازلون عن فرصة ترجمة قوتهم الديموغرافية إلى قوة سياسية؟ إن الخيار بأيديهم، وقرارهم سيحدّد صورة الحلبة السياسية أكثر من أي عنصر آخر.

السابق
رحلته إلى أميركا
التالي
الديار: زحف جماهيري إلى فلسطين