المسيرة العلمانيّة دقيقة صمت …جنوبيّة

كانت المسيرة العلمانيّة السنويّة، هذا العام، تشبه مثيلاتها السابقة كثيراً، لكن حدثت أمور جديدة، أبرزها تزامن موعد المسيرة مع ذكرى نكبة فلسطين، والأحداث التي ترافقت مع الحدث جنوباً في مارون الراس. وفيما كانت التظاهرة أشبه بالعرس، اضطر المشاركون إلى التوقف عن الاحتفال، بعدما وصلت أخبار من مارون الراس تتحدث عن سقوط شهداء

تظاهرة على البحر. يبدو ذلك مغرياً. فالكورنيش يكاد أن يصبح المكان الوحيد في العاصمة، الذي يصنع تفاعلاً طبقياً، أو حراكاً اجتماعياً بين عابريه. وأمس، كالعادة، كما في كل يوم أحد، ازدحم البحر بأهله. هكذا، استباحت الشمس مساحة واسعة من الفضاء، وارتفعت درجة الحرارة في بيروت، تزامناً مع «هجمة» علمانية على الكورنيش. في الثانية والنصف ظهراً، تقريباً، كان هناك مجموعات منتشرة، تحمل اللافتات، وتستمع إلى الموسيقى القوية، التي بثتها شاحنة متوقفة على يسار تمثال جمال عبد الناصر في منطقة عين المريسة. لم يكن عدد المجموعات كافياً في البداية لإثارة الفضوليين من المارة، إلا أن تزايد العدد سرعان ما دفع الكثيرين إلى الاقتراب والسؤال. التظاهرة أشبه بمسيرة احتفالية سنوية، لكنها في هذا العام مخصصة لتحديد موقف من قانون موحّد للأحوال الشخصية، ورفض العنف الأسري. وعندما فهموا ذلك، شعروا بأن الأمر لا يعنيهم، فلم ينضمّوا إلى «الكرنفال» العلماني. لكن، تغير المشهد قليلاً، بعد وصول مجموعة من «النادي العلماني» في الجامعة الأميركية في بيروت، والتحاقها بالمسيرة.
بدا أفراد النادي العلماني مستعدّين جيداً للمناسبة. خفف حضورهم الطابع «النوفوريشي» للتجمع. إذ كان معظم المتجمهرين قرب الطريق، ممن ينزهون كلابهم، ويتحدثون باللغتين الإنكليزية والفرنسية أكثر من العربية. لكن، في الشكل، تشابهت اللافتات المرفوعة، وإن تباينت اللغات التي كُتبت بها. ونتحدث عن اللغتين الإنكليزية والفرنسية، لأن ناشطين أجانب شاركوا في مسيرة العلمانيين اللبنانيين. وفي حديث مع «الأخبار»، لفتت إحدى الناشطات المداومات على المشاركة في التظاهرات ضد النظام الطائفي الى أن بعض الأجانب المقيمين في لنبان يحبّذون المشاركة في «المسيرة العلمانية السنوية»، وبعضهم ينتظرها من عام إلى عام. إذاً، تتخذ المسيرة العلمانية طابعاً كوزموبوليتيّاً بمشاركة هؤلاء المطالبين بدولة تحفظ لهم حقوقهم على أساس المواطنية، لا على أساس الطوائف والحمص. الحمص نال حصته من نقد المشاركين، فأحد هؤلاء رفع لافتة، كتب عليها «الحمص ليس كافياً أريد دولة تحفظ لي حقوقي». وفي الثالثة، بعد التحام القادمين من الجامعة الأميركية، مع المشاركين الآخرين، رصّ المتظاهرون صفوفهم ومشوا باتجاه ساحة رياض الصلح، على وقع الطبول والأهازيج. عرس حقيقي، رمزه «فاطمة» التي تحب «طوني».
وبمرافقة سيارة من قوى الأمن الداخلي، مشى المتظاهرون إلى وسط المدينة. مروا بساحات كانت علمانية الثقافة قبل الحرب، من دون أن يكون ذلك أمراً معلناً. ثمة شعور عند هؤلاء المشاركين بأن المرحلة التي تلت الحرب كانت استكمالاً صامتاً لها، إن كان عبر تكريس الطائفية مدخلاً إلى الوطن، أو توظيف الوطن في خدمة الجماعة، على حساب الفردية. والجماعة هنا دينية الطابع غالباً. وعلى وقع الأهازيج، والاحتفالات أخذت المسيرة منحىً احتفالياً لافتاً. ذلك لم يمنع وجود بعض الظواهر الخارجة عن المألوف. كأن يكون هناك بين المتظاهرين «بائع الكعك العلماني»، الرجل الذي باع أكبر كمية من الكعك للمشاركين، كان يضع على رأسه طربوشاً أحمر، وعلماً لبنانياً. وكان لافتاً أيضاً، بالنسبة إلى كثيرين من العلمانيين، الاستنفار المبالغ فيه، من «حارس» تمثال الرئيس الراحل رفيق الحريري، على مقربة من فندق فينيسيا. شعر الحارس، لسبب ما لم يكن مفهوماً للكثيرين، أنه في خطر، فاستلّ جهازه اللاسلكي وبدأ يتصل، ويشير بإصبعه إلى المسيرة. بيد أن ذلك كان حدثاً عابراً. فالحشد كان بعيداً عن التمثال، ولم يكن في حسابات أحد. وتابعت المسيرة سيرها مرافقةً من رجال الأمن الحقيقيين والافتراضيين. وفي الحديث عن رجال الأمن الافتراضيين، لا بد من الإشارة إلى «أذكى رجل أمن على الإطلاق»، كما يصفه الناشطون. فهذا الأخير، يرتدي ثياباً مدنيةً، ويطلب من المشاركين أن يزوّدوه بالملصقات والمناشير. الجميع يعرف أنه رجل أمن، لكنه يتصرف كمتظاهر. طبعاً يعرف الجميع أنه متظاهر، أي متظاهر بأنه معهم. ومن شدة فطنته، سأل أحد الصحافيين عن «كتب يوزعها الناشطون». لم تكن بادرة لطف، فقد ظن أن الصحافي الذي يدوّن بعض الملاحظات على دفتر صغير يقوم بعمل مشابه للذي يتولاه هو.
كان ذلك قبل أن تصل الأخبار من الجنوب. توقف المشاركون عن كل شيء، عندما عرفوا بسقوط شهداء فلسطينيين على الحدود الجنوبية. وفور معرفتهم بالخبر، أوقف المنظّمون جميع المظاهر الاحتفالية. وقفوا دقيقة صمت، على مقربة من الخيمة المنصوبة للمطالبة بقانون للأحوال الشخصية. ألقوا بعض الكلمات التي عرضوا فيها مطالبهم المعتادة، لكنهم ألغوا أي مظهر احتفالي. هناك شهداء في الجنوب، وفي الأساس التظاهرة من أجل دولة لا تميز بين الموجودين على أراضيها. لذلك، حظي الفلسطينيون بتعاطف واضح، وتأثر المشاركون كثيراً بالأخبار الآتية من الجنوب. لكن توجيه التحيات للفلسطينيين والتضامن مع موتهم، لم يعجب إحدى المشاركات. رمت الأخيرة لافتتها بقسوة، محاولةً لفت الأنظار إليها. وأعلنت الشقراء انسحابها من المسيرة. لم يأبه أحد لانسحابها، بل على العكس، أعلن المنظمون رسمياً، إلغاء الحفل الموسيقي الذي كان مقرراً بعد المسيرة، أمام ساحة مجلس النواب، وذلك احتراماً لأرواح الضحايا الذين سقطوا في الجنوب. هكذا، غادر الجميع بهدوء، كما عاد رجل الأمن إلى دراجته النارية، ظافراً بأكبر كمية من المناشير.

السابق
الإنقاذ الإسلامية ثمنت موقف قباني في قمة بكركي
التالي
نفايات منطقة النبطية.. عود على بدء