“كوما” المجلس الشيعي

في اعتراض المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى على بعض ما ورد في بيان القمة الروحية الاخير ما يثر الاستهجان، ليس بسبب مضمون الاعتراض فحسب، بل لان وفد "المجلس الشيعي" شارك في القمة وتبنى البيان وظهر اعضاؤه في الصورة التذكارية في بكركي وشاركوا في الغداء المشترك لممثلي بقية الطوائف بكل ما تقتضي الاصول، واذا بنا، بعد ساعات من صدور بيان القمة، ومع عودة اعضاء الوفد الى منازلهم، صدر بيان عن "المجلس الشيعي" ونائب رئيسه الامام الشيخ عبد الامير قبلان يعترض على بعض بنود "البيان الروحي" ويعتبر ان المجلس غير معني بها.
يكشف ما جرى حقيقة ان هذا المجلس بات يفتقد لأي هامش مستقل يتيح لرئيسه ان يعبر عن وجهة نظر قد لا تلائم الحاكم السياسي داخل الطائفة الشيعية. اكتشف "الحاكم" ان البيان اعتمد مصطلح "الدولة" وليس "الوطن" في سياق تحديد مسؤولية مواجهة العدو: فهل الدولة غير الارض والشعب والمؤسسات؟
كما أنّ الردّ على بيان القمة الروحية حمل تأنيبا لوفد المجلس الشيعي الذي شارك قبل غيره: فماذا كان يفعل هؤلاء في لجنة الصياغة وحين تلاوة البيان؟ واذا كانوا مشاركين في هذه القمة فعليا، هل وافقوا ثم اعترضوا بعد ان وصلوا الى بيوتهم؟
الاستهجان تعبير ينطوي على اعتقاد صاحبه بوجود هذا المجلس وفعالية رئاسته، الأمر البعيد عن الصحة. فهذه المؤسسة الشيعية فقدت خصوصيتها وموقعها الجامع من زمان بعيد، وباتت اسما حركيا لـ"حزب الله"، بعدما فقدت حركة "أمل" قدرتها على المنافسة الثقافية والايديولوجية، وحتى السياسية، داخل المجلس.
غنيّ عن القول إنّ الطائفة الشيعية حمّلت ما لا يمكن ان تحتمله ودفعت نحو خيارات سياسية محلية واقليمية وفقا لرؤى ايديولوجية خارج الزمن. رؤى وخيارات عززت ثقافة انعزال الطائفة عن المجتمع، وتنمية العدوانية كنمط تفكير وسلوك سياسي واجتماعي، ووجّهت إلى توتير العصب المذهبي تزامنا مع تأبيد فكرة غياب الدولة.
وجرى ضخ الكثير من الافكار والممارسات في وعي الجمهور الشيعي وحيواته لإبعاد الناس عن مشروع الدولة من خلال تسويق منطق اللاقانون، ما يحيلنا الى 11 عاما مضت، عام التحرير في ايار 2000، وهو الانجاز الاهم للمقاومة و"حزب الله" تحديدا. وحتى اليوم فوّت "حزب الله" فرصة الانتقال من الجهاد الاصغر، اي التحرير، الى الجهاد الاكبر، اي اعادة البناء في الداخل ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، عبر الانخراط في اعادة بناء الدولة، مستفيدا من الانجاز التاريخي.
إختار "حزب الله" رهن الطائفة الشيعية الى خيارات اقليمية اكبر منها وتفوق امكانياتها وقدرة لبنان. وهي تدفع منذ عشر سنوات ثمن هذه الخيارات الاقليمية بالمزيد من غياب الدولة، من العدوانية ضد الآخر وعدوانية الآخر ضدّها، وبالنفاق الأخلاقي الذي يجعل من أمير قطر أحد أبطال حرب تموز 2006 رغم علاقاته الوثيقة مع العدو، لننتبه اليوم إلى أنّه "عميل اسرائيلي" بعدما تضامن مع المحتجين في سورية.
وهناك شواهد كثيرة تدل على المأزق الاخلاقي الذي يجعل من عدو الامس بطل اليوم وصديق اليوم متعامل مع العدو غدا، وعلى قاعدة "من ليس معنا فهو العدو". وقد لا نفاجأ إذا تحوّلت المدائح التي تكال للعماد ميشال عون والأدعية التي تتلى على نيته إلى نقيضها.
يمكن القول ان الطائفة الشيعية كما الشيعة خارج ايران، وان بنسب متفاوتة، يتأرجحون بين مدرستين: الاولى نجفية أنتجت خلال مئات السنوا الماضية تشيّعا بعيدا عن الادلجة والسلطة، إستطاع ان يتعايش مع الجماعات المتنوعة، بسبب عدم انخراطه بمشروع سياسي ايديولوجي، والثانية هي التشيع الايراني، الذي عمل على اعادة انتاج الارث الشيعي بقالب ايديولوجي وسلطة محدّدة، حوّلت منظومة الامام الغائب من منظومة تطلع اخلاقي وتطهر فردي، الى منظومة سلطة سياسية، ليتحول المرجع والفقيه، او نائب الامام، الى "الوليّ الفقيه" الواجب الطاعة كما الامام (أنا ممثل الامام وعليكم طاعتي). فهل يعقل ان يكون الجدل الاهم في ايران اليوم هو التشكيك أو صحة لقاءات مزعومة أجراها الامام المهدي مع نائبه او مع رئيس الجمهورية؟ باختصار التشيع الايراني بهذا المعنى اربك منظومة الوعي الشيعي ونقل هذا الارباك الى الاقليات الشيعية في العالم العربي، وحال دون الولاء للوطن والمجتمعات التي يعيشون فيها منذ مئات السنيين. لذلك برزت العدوانية من الشيعة وعليهم، وهنا كان "الإعتراض" على "الإجماع اللبناني" في بكركي، إعتراض بدا واضحا أنّه "حزب اللهي" لا علاقة له بالمجلس الذي وافق قبلا.
هذا الواقع المتحكم اليوم بالوعي الشيعي هو ما يحول دون القدرة على حسم خيارات الشيعة السياسية. فهم يعيشون في خضّم هذا الصراع الذي لن ينتهي ببساطة، بل بخسائر تبدو وكأنها شرط لا بد منه لاستنقاذ التشيّع من الايديولوجيا والسلطة، وإعادته إلى التعدّد والحرية والمجتمع والوطن والأمة.

السابق
امسية رصد فلكي في صور
التالي
شيعة لبنان و”حزب الله”: من شكرًا قطر… إلى وداعًا قطر