“إخوان” وعسكر وأقليّات

ثبت أنّ في المنطقة العربيّة الإسلاميّة ثلاثة مكونات، لا رابع لها حتى اليوم. وهي في تفاعلها وتآلفها أو تنافرها، ترسم صورة مجتمعاتها. ثلاثة مكونات، هي بمفردات تبسيطية على النحو الآتي: الإخوان المسلمون، والعسكر، والأقليات. مفردات مبسّطة وتبسيطية، لأنّ مفاهيم هذه المكونات ومسمياتها قد تكون أكثر تركيباً. ففي الإسلام الحركي السياسي السني، أسماء كثيرة وبنىً مختلفة، لكنّها كلها قابلة للاختصار في المشهد السياسي الراهن، بتسمية «الإخوان».. إن لم يكن تنظيمياً أو تكتياً، فعلى الأقل لجهة علّة الوجود والغائية النهائية لتلك التنظيمات السنية كلها، أي «أسلمة الدولة والمجتمع». هكذا تصير «الجماعة» اسماً تلوينياً للإخوان. وتكون «حماس» صفة تشكيلية للإخوان في الظرف الفلسطيني المقاوم لإسرائيل، أو لفتح، أو لإمارة إسلاموية تنبت على كعبها الأيمن. وهكذا هي «العدالة والتنمية» التركية و«النهضة» التونسية، كما كل «الإمارات» المتناثرة من الجزائر حتى قلب القوقاز. وحتى «القاعدة» ليست سوى الذراع العسكرية لذاك «التيار الإسلاموي السني المركزي». من لا ينظر إلى تلك الخريطة بهذا المنظار، يخطئ كثيراً في فهم العديد من تفاصيل التطوّرات السياسية في هذه المنطقة. فهو لن يفهم كيف أن «جزيرة» الدوحة عادت فوراً إلى «شبه الجزيرة الوهابية». ولا كيف أنّ «حماس» سكتت عن زعزعة النظام الوحيد الداعم لها في دمشق. وكيف أنه، حتى حين تحدّث لمرة يتيمة خالد مشعل، عالكاً كلماته في مسألة الاستقرار السوري، جاء توضيح تخفيفي لكلامه من غزة بالذات، وللمرة الأولى في سياق هرمية تلك «الحركة». وكيف أنّ حكام تركيا كانوا حريصين على الترجمة الفورية إلى لغتهم ولغة الأكراد، لكل ما يقوله إخوان درعا. وكيف أن عمامة القرضاوي خنقت صوت وائل غنيم في ميدان التحرير، حتى شلت لوحة مفاتيح تواصله الاجتماعي، ولم يعد لرفاقه غير التواصل التخاطري مع حلم «الإخوان الجمهوريين» في السودان السابق الشقيق الجار… قبل أن يصير الإعدام مصيرَ مؤسس هؤلاء، رغم كونهم، أو الأصح بسبب كونهم من أبرز الحركات المسلمة المتنورة في الزمن المعاصر وأهمّها…

أما المكوّن الثاني في هذه المنطقة المنكوبة ببؤسها الأصيل، فهو الأقليّات. وهي أيضاً تسمية تبسيطية لأنّها تضمّ في ثناياها العديد من العوامل المحدّدة لهويّات تلك الجماعات الأقلويّة. ففيها أقليات دينية، قد تكون الأبرز. غير أن فيها أيضاً أقليات إثنية ثقافية كذلك. كلّها صارت مجموعات من الأقليات. أو «حارات» «جاليات» في دولة الخلافة المركزية. تشاركت كلها منذ قرون طويلة السمات نفسها: الإقامة في أطراف الدولة هرباً من قمع عاصمتها، السعي إلى ذاتية في الحكم وخصوصية في الثقافة، المعاناة من تهم العمالة والخيانة ورأس الجسر وأخمص القدم وكعب البندقية، النزف الديموغرافي والهجرة بدوافع كثيرة متزاوجة بين الذاتي والوضعي، بين الحاجة والضرورة، اللجوء عن وعي أو بدونه إلى استراتيجية «القتال التأخيري» في انتظار تغير العاصمة والمركز والخلافة، لا كواقع سلطوي وحسب. بل كفكر ديني لاغٍ للآخر حتى القتل والسحل. وبين ذلك كله، استلاب دائم في تشخيص السبب والنتيجة والعلاج: هل هي الذات المختلفة؟ هل هو الآخر المستبدّ؟ أم هو «الغرب» الطرف الثالث الداخل الدخيل لمجرد الاستخدام والاستفادة؟ من دون الوصول أبداً إلى معادلة عادلة حول توزيع تلك المسؤوليات الثلاث.

وبين «الإخوان» والأقليات، يبقى مكوّن ثالث: العسكر. أي تلك الجيوش المصطنعة الموجودة داخل كل كيان، والمركّبة هي ذاتها من خليط هجين غريب عجيب. فمنها المجنون السلطوي، على شاكلة فاتح سبتمبر ومغلق كل الأيام التي تلته منذ نيف وأربعين عاماً. ومنها الحاكم الحالم المثالي، على طريقة النموذج الفريد لسوار الذهب، الذي ذهب بصمته يائساً من ضجيج ناسه والتفاهة. وهناك في الجيوش أيضاً من يأتي من الأقليات ليجمل صورتها، أو بالعكس من يأتي إلى العسكر من الأكثرية ليستر عورتها بنجمة أو يقنّع صلعتها بقبعة. وطبعاً طبعاً، هناك في الجيوش الوصوليون وأهل البطالة من الفقراء والهامشيين في المجتمع، وهناك «المهنيون» الذين تصير كل أنطولوجيا الفكر عندهم «مهنتهم»، حتى تنتهي إسكاتولوجيا الآخرة عندهم، عند لحظة التقاعد.

هكذا تبدو المنطقة. مثلث غير متساوي الأضلاع بين الثلاثة. إذا اجتمع اثنان منها صمدا، وإذا خسر أحدها الاثنين الآخرين سقط. ويتحدثون عن ثورة؟ لن تكون قبل أن تكون ثورة دينية، أي تحديداً ثورة على المقدّس الديني الدوغماتي الجامد والمجمِّد. تماماً كما كل ثورات التاريخ. عندها، تسقط المكوّنات الثلاثة، وتصير الحريّة ممكنة، مع الخبز، ومع اطمئنان الغد.

السابق
خطأ خليجي
التالي
الحياة: بري يرى تقدماً ملموساً في تأليف الحكومة اللبنانية