سكنة غنوي آخر جيل حياكة القشّ في الجنوب: تحكي قصّة “المجزرة”

بعد أكثر من عشرين عاماً على هجرها مهنة حياكة القشّ، قرّرت سكنة محمد غنوي (72 سنة) العودة الى عملها السابق وهوايتها القديمة، لكن بدون غاية مادية، لتستعيد معها ذاكرتها " المليئة بالمحبّة والأنس، اضافة الى القسوة والخوف والتشرّد التي لاقاها أبناء بلدتها حولا منذ مجزرة حولا في العام 1948، التي حلّت ذكراها في الواحد والثلاثين من الشهر الفائت".

تقول سكنة غنوي " اليوم أصبح اللبنانيون يبحثون عن " صواني" القشّ القديمة ليحتفظوا بها لتذكّرهم بحياة أجدادهم، بينما عمد الجنود الصهاينة في العام 1948، أثناء تنفيذهم لمجزرة حولا الى قتل الرجال والنساء، وهدم وحرق المنازل، والى جمع ما تيسّر من آلات الحراثة وطحن القمح الحجرية القديمة في أحد المنازل ومن ثمّ سوقها معهم، واحتفظوا بها وعرضوها في متاحفهم".

" عدت الى ممارسة هوايتي القديمة، التي ورثتها عن جدّاتي، كما سائر نساء البلدة حينها، لكني وجدت نفسي وحيدة في عملي هذا، بعد أن ابتعد الأهالي، ليس فقط عن هذه المهنة، بل عن أي عمل يدوي، أو حتى عن زراعة القمح التي كانت سبباً رئيسياً في جعل النساء تستغلّ كثرة القشّ لحياكته واستخدامه في الأدوات المنزلية وأدوات الزينة وغيرها". تقول سكنة غنوي ( أم رائف)، وتلعن " هذه الأيام التي جعلتني وحيدة وعاجزة عن أي عمل آخر، خصوصاً بعد أن زوّجت أولادي السبعة وأنهكني المرض". ولكنها في الوقت عينه سعيدة بعودتها الى عملها هذا، وتقول " صحيح أن الأهالي اليوم استغنوا عن هذه الصناعة لوجود البديل، لكنّ أحد التجار في منطقة الأوزاعي في بيروت قال لي أنه يبحث عن من يصنع أواني القشّ لأن هناك الكثير من أصحاب الهوايات يطلبون هذه السلع التي باتت نادرة، وبأسعار مرتفعة". منذ خمسين سنة أو أكثر كانت هذه المهنة، بحسب غنوي، مهنة للنساء فقط، اللاّتي كنّ ينتظرن وقت الاستراحة ليلاً، بعد عملهنّ في الحقول وانتهائهنّ من الأعمال المنزلية، للاجتماع في أحد المنازل والعمل في حياكة القشّ، بهدف استغلال قشّ القمح الوفير جداً، كون معظم الحقول كانت تزرع بالقمح، وصنع ما تيسّر من السلال والصواني وأدوات الزينة وغير ذلك، ومن ثم بيعه في الأسواق الشعبية في بنت جبيل والطيبة ومرجعيون وأحياناً في فلسطين. أسبوع أو أكثر يستغرق صناعة صينية أو سلّة واحدة، " فهو عمل شاق ودقيق، لكنّه مسلّ، خاصة في تلك الأيام التي لم يكن يوجد فيها ما يلهي الانسان غير العمل، والعونة، فالجميع يعمل معاً، وتمضي السهرات الطويلة ونحن نتحدّث ونتسلّى أثناء حياكة القشّ. وأنا اليوم أعمل وحيدة لأتسلّى وأتذكّر تلك الأيام والسهرات الجميلة". لا يوجد في المنطقة كلّها أحد غير سكنة غنوي تحيك القشّ لصنع الأواني القديمة " تلك الأواني والزينة التي كنّا نستخدمها لوضع المونة المنزلية وحمل الطعام، وتزيين الغرف. لكن لا وجود لها الأن، رغم أنّ الكثيرين من أقربائي يطلبون مني أن أصنع لهم الأن السلال أو الصواني ليعلّقوها في منازلهم للذكرى". لكن المشكلة كما تقول غنوي في " ندرة القشّ، وهذا الأمر المزعج والمستغرب بالنسبة اليّ، فالأهالي لا يزرعون القمح الأن، رغم أن جميع أبناء البلدة كانوا في الماضي يحاولون زرع كلّ شبر من الأرض لاستغلالها والاستفادة منها، فبتّ اليوم أبحث عن بقايا القشّ في الحقول لاستخدامه في الحياكة". لا تحتاج هذه الصناعة الى أي رأسمال، كما لا تحتاج الاّ الى " مسلّة"، وهي صنّارة صغيرة للحياكة، " أصنع المسلّة بنفسي، وأحتاج الى الصبغة بألوانها المتعددة التي اشتريها الأن من النبطيّة، بعد أن كنّا نشتريها سابقاً من التجّار السوريين، لألوّن بها القشّ". وتبيّن غنوي أنه " قبل البدء بالعمل يجب ان أضع الماء على القشّ لمدّة 5 ساعات ليصبح طريّاً، ومن ثمّ أغلي الماء مع القشّ والصبغة لمدّة ساعة أو أكثر لكيّ يصبغ القشّ جيداً بألوان متعدّدة حسب الحاجة". تتذكّر غنوي كيف كانت تذهب مع والدتها سيراً على الأقدام، وهي لم تتجاوز 10 سنوات، الى فلسطين قبل احتلالها لبيع الصواني والسلال والعنب، ومن ثم شراء حبوب الذرة، ثم العودة في نفس اليوم، أو الاضطرار للنوم ليلة أو أكثر. " لقد زرت معظم الأراضي الفلسطينية في صغري، وكنّا نبيع كلّ ما نصنعه وننتجه، كذلك كنت أبيع السلال في أسواق الجنوب، وكنت لا أحتاج أن أنتظر كثيراً لبيع ما أصنعه بيدي فالزبائن يتسابقون على شراء الأواني المصنوعة من القشّ، وكان سعر السلّة 4 ليرات، كانت كافية لشراء فستان جميل". وتذكر قصّة احدى رفيقاتها التي قرّرت أن تحمل ما حاكته من السلال والصواني على رأسها قاصدة بلدة مجدل سلم المجاورة، فأوقفها عدد من الشباب على احدى التلال القريبة، قائلين لها " نسألك ان كان الدعاء على الأعداء يحقّق نتيجة مفيدة، فقالت هو مجرّد فشّة خلق، عندها رموا ما تحمله على رأسها باتجاه الوادي، قائلين ادعي علينا وفشّي خلقك، فالدعاء لن يجلب لنا، بحسب قولك، المصائب". لم تكن هواية سكنة عنوي مقتصرة على حياكة القشّ، بل " كنت أجيد تطريز الأثواب و" الشراشف" والفرش وأمتهن فنّ الرسم، فأرسم الرسومات الجميلة على أغطية الأسرّة، فقد تعلّمت هذه المهنة من نساء بلدة شقرا المجاورة".

وعن سبب عودتها، بعد أكثر من عشرين سنة، الى حياكة القشّ تقول غنوي " لقد طلب منّي ابن شقيقتي الشهيد فؤاد غنوي منذ نحو ثلاث سنوات أن أحيك له صينية قشّ ليحتفظ بها ويتذكّرني طيلة حياته، فوافقت على طلبه، لكنّه توفي قبلي بعد أن انفجرت به قنبلة عنقودية في وادي السلوقي المجاور، أثناء عمله، ومنذ ذلك الوقت وأنا أجد من هذا العمل هوايتي المفضّلة التي تذكّرني بأحبائي الذين فقدتهم".

وتذكر غنوي جيداً أحداث مجزرة حولا، التي " راح ضحيتها 85 شهيداً من البلدة". وتعتبر أن هذه الحادثة هي التي غيّرت نمط حياتها. " كنت في العاشرة من عمري عندما شاهدت الصهاينة يدخلون البلدة من جهة بلدة مركبا، وهم متنكرين بارتداء ثياب العرب الفلسطينيين، وألقوا القبض على كل من يجدونه من الأهالي، وجمعوا وهدموا غرفتين على عدد من الشباب وحفروا خندقاً ودفنوا فيه عدد آخر من الشباب، وأذكر انني اقتربت من الخندق فوجدت رجل أحد الشهداء لم يتم طمرها بالتراب جيداً". وتذكر كيف " جمع اليهود نساءً من البلدة داخل أحد المنازل طالبين منهنّ معط الدجاج وتحضيره ليأكلوه، لكن النسوة استغلّين غفوة الحارس فولّين هاربات عبر أسطح المنازل واختبأن في مكان بعيد، فعمد الجنود الى حرق المنازل بحثاً عنهن". وكيف أن صبية من آل سليمان من البلدة أخذها الجنود أسيرة معهم عند رحيلهم بعد المجزرة، وانقطعت أخبارها حتى الأن.

السابق
زوار المختارة لـ “الأنباء”: جنبلاط متمسك بميقاتي
التالي
محللون: النظام السوري تجاوز انشقاقاً داخلياً بين مجموعتي بشار وماهر