غياب بن لادن وأثره على الإدارة الأميركية

لا شك أن مقتل أسامة بن لادن على يد القوات الخاصة الأميركية، حدث إعلامي وسيكولوجي رمزي هام بالنسبة للولايات المتحدة، باعتباره قائد التنظيم الذي تجرأ وهاجم أميركا في عقر دارها.

وعلى الرغم من أن بن لادن لم يعد يشكل خطراً مباشراً على الولايات المتحدة بعد اجتياح أفغانستان، فإن اختفاءه لفترة اقتربت من عشر سنوات كان يمثل حرجاً لإدارة الرئيس السابق بوش التي أعلنت أن الحرب على "الإرهاب" هي أولويتها القصوى. 

وسيمثل مقتله نصراً رمزياً للولايات المتحدة، خاصة أن الحكومة الأميركية السابقة والحالية قد شخصنت الحرب على الإرهاب، فأصبح رمز العدو الأول للولايات المتحدة هو بن لادن، ومن هنا فإن رمز الخطر الذي شكله تنظيم القاعدة قد زال.

ومن الطبيعي أن يحاول فريق الرئيس أوباما توظيف عملية قتل بن لادن في حملته الانتخابية القادمة، لكننا لا نعتقد أنه سيكون عاملاً حاسماً، وذلك للاعتبارات التالية:

أولاً، لم ينجح تنظيم القاعدة في تهديد الولايات المتحدة في عقر داخلها، بشكل جدي، بعد الهجوم على مركز التجارة العالمية والبنتاغون، ما خلا بعض المحاولات المحدودة، مثل محاولة تفجير الطائرة التي حاول القيام بها النيجري الذي تم تجنيده في اليمن، ومحاولة شاب باكستاني أميركي تفجير سيارة في ساحة تايمز سكوير في نيويورك، وكلاهما تم قبل أكثر من عام.

سبب الفشل في العمليتين كان يعكس بدائية المحاولة، إضافة إلى تشديد الإجراءات الأمنية الكبير في الولايات المتحدة. ومع ذلك فلم يكن لبن لادن دور مباشر في هاتين العمليتين، وبالتالي فلا يمكن اعتبار قتل بن لادن قضاء على خطر قائم يهدد أمن الولايات المتحدة، كما تحاول بعض وسائل الإعلام تصويره.

ثانياً، لقد تم تدمير البنية التحتية لمنظمة القاعدة التي كانت تتبع لبن لادن بعد اجتياح أفغانستان، إذ خسرت منظمة القاعدة "المخبأ الآمن"، التي خططت منه كثيراً من عملياتها، ومنها الهجوم على الولايات المتحدة.

كما تم اعتقال أو قتل العديد من قادتها، وخاصة أولئك المسؤولين المباشرين عن الهجوم الذي تعرضت له أميركا، من أمثال خالد الشيخ محمد والشيبة وغير هام.

لكن بقاء بن لادن وأيمن الظواهري على قيد الحياة بقي عنصر إحراج لعدم قدرة الدولة العظمى على القبض أو قتل رجل واحد. ولم يكن الرجل ليفوت فرصة ليذكر العالم بهذا الإحراج من خلال رسائله الصوتية.

ثالثاً، لقد تحولت منظمة القاعدة، التي شكلها وقادها بن لادن بعد اجتياح أفغانستان، إلى منظمات متعددة لم تعد ترتبط بهيكل تنظيمي واحد، أو تتبع قيادة مركزية واحدة، رغم استمرار بن لادن والظواهري كرموز لهذه التنظيمات.

ولعل الشيء المشترك بين هذه التنظيمات هو اقتناعها بأن "الجهاد المسلح" هو الوسيلة الناجعة الوحيدة للتغيير في المنطقة، وهذه العلامة مميزة لكثير من حركات الاحتجاج الغاضبة التي ترعرعت في بعض البيئات المواتية للتطرف من قبيل انسداد الأفق السياسي، وضيق الفرص الاقتصادية، واستشراء الفساد، وحالة الاستضعاف أمام إسرائيل والقوى الغربية.

ومن هنا فقد استخدم البعض اسم القاعدة كغطاء أيديولوجي، ومبرر لحالة الاحتجاج و"المقاومة" التي خاضها بعض هؤلاء الشباب في أكثر من مكان في العالم العربي والإسلامي.

وبمعنى آخر، لن يؤثر مقتل الرجل على أنشطة هذه التنظيمات التي تتمحور أنشطتها حول هموم "محلية " وتبريرات "أممية". 

أما بالنسبة لإدارة أوباما، فبعد اللحظة الاحتفالية التي ستحاول الحكومة الأميركية استغلالها، خاصة بإبراز النجاح الأمني في تعقب الرجل والتخلص منه، سيجد أوباما نفسه مجبراً على التعاطي مع الأمور الملحة المتمثلة في القضايا التالية:

القضية الأولى هي الوضع الاقتصادي الداخلي، وترسيخ الخطط الاقتصادية اللازمة لانتشال الاقتصاد الأميركي من الركود، وقدرة الإدارة على تمرير سياساتها الاقتصادية في مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون.

لقد أثبتت معركة الميزانية مع الكونغرس، خاصة مع اقتراب الحملة الانتخابية الرئاسية، أن قادة الحزب الجمهوري سيحاولون عرقلة أي مشروع يطرحه الرئيس أوباما قبل الانتخابات، وذلك لإظهار فشله، حتى ولو كان هذا على حساب إخراج البلاد من تداعيات الأزمة الاقتصادية الشاملة.

القضية الثانية التي تواجه إدارة الرئيس أوباما هي التحديات الخارجية، بما فيها منطقة الشرق الأوسط التي تمر بتغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة، تضيف إلى تحديات الوجود العسكري الأميركي في كل من أفغانستان والعراق.

لا شك أن الوجود العسكري الأميركي في كل من العراق وأفغانستان هو أمر ملح من وجهة نظر إدارة أوباما لما يعنيه هذا الأمر من استنزاف للموارد البشرية والمالية للولايات المتحدة التي تعاني عجزاً متزايداً في ميزانيتها.

ومع أن وجهة نظر أوباما شخصياً في هاتين القضيتين واضحة، وتتمثل في اعتبار الاجتياح الذي قامت به إدارة الرئيس بوش للعراق "انحرافاً" عن التركيز على محاربة الإرهاب الذي تجسده المنظمات الإرهابية والدول الداعمة لها، رغم ذلك لم يستطع أوباما سحب القوات الأميركية من العراق، إلا من خلال جدول زمني حدده قيادة البنتاغون والتطورات في العراق ذاته.

ومع أن الإدارة الأميركية قد قدمت جدولاً زمنياً لانسحاب أغلب القوات الأميركية من العراق، والذي من المفترض أن يكتمل في صيف هذا العام، فإن القوى السياسية العراقية المتناحرة لا تزال تطالب بهذا الوجود، ويبقى النقاش حول حجم هذا الوجود وشروطه مستمرا.

أما في أفغانستان، فقد ثبت فشل الإستراتيجية العسكرية الأميركية والغربية هناك، إذ من المستحيل حسم الموضوع عسكرياً كما أثبتت تطورات العامين الماضيين. وهنا يمكن لغياب بن لادن أن يكون مبرراً لإدارة أوباما في اتخاذ قرار شجاع بالاعتراف بهذا الواقع، ووضع جدول زمني للانسحاب العسكري من أفغانستان، مع محاولة إيجاد المزيد من الحوافز لحث طالبان على الدخول في العملية السياسية، والتسليم بمحدودية قدرة الخارج على إيجاد حلول شاملة لهذا البلد.

ولعل الثورات العربية -رغم أهميتها القصوى للمنطقة- تأتي في درجة تالية في سلم أولويات الإدارة الأميركية، وهذا ما أشارت إليه طريقة تعاطي إدارة أوباما معها. فمن الواضح تماما أن الإدارة تتعامل مع هذه الثورات بشكل منفصل، وبطريقة أقرب إلى رد الفعل، وبشكل لا يعطي انطباعاً بتفهم لأهمية وعمق هذه التحولات وآثارها الإقليمية والدولية المحتملة.

القضية الثالثة التي ستفرض على الإدارة الأميركية نوعاً من الاهتمام تتمثل في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مع استمرار ما تسمى عملية السلام في حالة الموت السريري.

ومع أن الثورات العربية ستغير معادلة الصراع العربي الإسرائيلي لصالح الفلسطينيين، وهو موضوع إما أن الإدارة الأميركية لا تدركه وإما أنها تتجاهله، فإن الإدارة الأميركية لم تظهر ما يؤكد أنها ترى فرصة جديدة لطرح مبادرات جديدة من شأنها بث الحياة في هذه العملية.

ومع أن إدارة أوباما قد ألقت مسؤولية فشلها في هذا الملف على تركيبة الحكومة الإسرائيلية الحالية وعلى الانقسام الفلسطيني، فيبدو أن التغيّر في الموضوع الأخير لم يحركها لترى فيه زوالاً لأحد معوقات استئناف هذه العملية، فكان رد فعلها على الاتفاق بين حماس والسلطة الفلسطينية أقرب إلى الموقف الإسرائيلي القائم على تخيير السلطة بين السلام والتقارب مع حماس.

وباختصار، فإن نجاح إدارة أوباما في قتل بن لادن لا يعني تغيراً كبيراً في طريقة تعاطي هذه الإدارة مع قضايا المنطقة، كما أنه من غير المتوقع أن يكون عاملاً أساسيا في الانتخابات الرئاسية القادمة التي يتوقع أن يفوز أوباما فيها بفترة رئاسية ثانية، لأسباب تتعلق بالوضع الاقتصادي الداخلي، وعدم برهنة الحزب الجمهوري على أنه عنده بديل أفضل، أو حتى منافس قادر على هزيمة أوباما.

كان من الممكن لإدارة أوباما أن تقدم رمزية غياب بن لادن عن المشهد السياسي على أنه نهاية حقبة، لكنْ كانت الأصوات المتطرفة من كافة الاتجاهات هي المدوية، وتقول إن الاغتيال الرمزي للتطرف قد وقع في سيدي بوزيد وميدان التحرير. لكن ما فتئ أن ظهر شكل آخر من أشكال التطرف ألا وهو تطرف القذافي وكتائبه وعلي صالح وبشار الأسد وحرسهم الجمهوري، هذا النوع من التطرف يحاول إيقاف حركة التاريخ، واستخدام العنف والإرهاب ضد الشباب المسالم الأعزل المطالب بحريته وكرامته، واستعادة الأمر من مغتصبيه، وإعادته إلى الشعوب المانحة للشرعية.

هذا المشهد الجديد في المنطقة يقدم فرصاً كبيرة لإدارة أوباما لصياغة إستراتيجية أميركية جديدة تجاه المنطقة تقوم على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة للشعوب، لكن المؤشرات الأولية تظهر أن عوامل معقدة تمنع أوباما، الذي ركب موجة توقعات أكبر من قدرته على الأداء، من توظيف غياب شخص كبن لادن لإحداث هذا التغيير.

فأول شروط إحداث مثل هذا التحول يتمثل في استيعاب أهمية الثورات الشعبية التي شهدتها وتشهدها المنطقة، والاعتراف بتفوق الأساليب السلمية في التغيير والتعبير وأنها البدائل الأقوى للتطرف والعنف اللذين كان أبناء بن لادن في بلاد العرب والغرب أدواته ورموزه.

السابق
هيفاء وهبي ترفض الغناء بالخليجي
التالي
صافرات إنذار إسرائيلية في المطلة