حيص بيص… إعلامي

في تونس، ثم في مصر، جرى الاتكال كثيراً على وسائل التواصل الإلكتروني لتوضيح صورة ما يجري. في مصر نجحت القنوات الفضائية في الانتقال بالمعنيين مباشرة إلى الميدان، وصارت الوسائل الإلكترونية عاملاً متمّماً، بينما اختفت هذه الصورة في ليبيا لأسباب كثيرة، أبرزها قرار سلطات معمر القذافي وقف الإنترنت في مناطق نفوذها، بينما يتكّل المعارضون في مناطقهم على الآلة التلفزيونية الضخمة التي تواكب نشاطهم.

في سوريا، يبدو المشهد مختلفاً كثيراً. منع السلطات وسائل الإعلام ذات التأثير الكبير من التحرك داخل الأراضي السورية، ومحدودية التغطية من جانب الإعلام المكتوب، والانقسام السياسي ـــــ الإعلامي الواضح بين مؤيّدين ومعارضين لما يجري في سوريا، دفعت وكالات الأنباء العالمية، كما الفضائيات العربية والأجنبية، إلى الاتكال على مصادر غير واضحة لناحية البيانات: شاهد عيان، ناشط حقوقي، مواطن.. إلخ.

وهؤلاء قدّموا معلومات متناقضة أضاعت صدقيتهم وأضاعت فعاليتهم، وإن كانت وكالات الأنباء قد حرصت على الاستمرار باللعبة نفسها، لكونها تنطلق من أن غالبية الإعلاميين خارج سوريا سيستندون إليها أكثر ممّا يستندون إلى وسائل الإعلام الرسمية أو القريبة من الحكم هناك. كل ذلك ساعد على أن تكون ساحة الإنترنت ومواقع الاتصال الاجتماعي المكتوبة والمرئية أكثر حضوراً وفعالية، وخصوصاً أن العمل الفردي في هذا الحقل لا يخضع لضوابط، وثمّة شعور عميق لدى مستخدم الإنترنت بأنه أبعد عن الرقابة، سواء تلك الأمنية التي يخشاها أو المهنية التي تحاسبه على ما يقول، أو الأخلاقية التي تجعله في قفص الاتهام حيث يرتكب الأخطاء.

في سوريا، لم يخشَ النظام وسيلة الإنترنت، لم يضيّق عليها، ولم يعمد إلى وقفها، ولا حتى إلى حجب وسائل البث إلى الخارج ـــــ علماً بأن معارضين تحدثوا عن اعتقالات لبعضهم نتيجة تعقّب تقني لهم من أجهزة الأمن ـــــ كذلك لم تتأثر الاتصالات الهاتفية أو الثابتة بالاستنفار (في حالتي درعا وبانياس، صار الإجراء جزءاً من الإجراءات التي تواكب أي حملة عسكرية في أي بلد من العالم). ثم إن النظام في سوريا استفاد من تطوّع عشرات بل مئات من أنصار النظام، وخصوصاً الذين يجيدون استخدام هذه الوسيلة لتنظيم عمل بدا أكثر فعالية من كل وسائل الإعلام السورية الأخرى، وبالتأكيد أكثر جدوى من التصريحات والمقابلات الصحافية. لكن المشكلة ظلت موجودة لدى المتابعين للمشهد من خارج سوريا، حيث الغالبية تتبادل الاتهامات بالاستناد إلى معطيات غير دقيقة.

مؤيّدو المعارضة يقولون إن النظام وإعلامه لم ينطقا يوماً بكلام صحيح. ثم على هذا الأساس جرى نفي أي أعمال تخريب أو قتل يقوم بها مسلحون، سوريين كانوا أو من دول أخرى. وأصحاب هذا المنطق يرفضون مجرد الإشارة أو التشكيك في وجود جهات تقوم بعمليات قتل منظّمة. وعندما يُطرح السؤال: مَن يقتل العسكريين؟ يأتي الجواب فوراً من هؤلاء: قتلهم الجيش لأنهم رفضوا المشاركة في القمع. طيّب، وما هو تفسير بعض شرائط الفيديو عن عمليات تمثيل بجثث العسكريين؟ يعود الجواب نفسه: إنها ألاعيب النظام. طيّب، وما سرّ وجود عدد كبير من المواطنين السوريين الذين يصدقون ذلك؟ تعود إلى الجواب نفسه: ليس صحيحاً أن هناك عدداً كبيراً ممّن يصدّقون النظام. تسأل في المقابل: وكيف لك أن تتأكد من ذلك؟ يجيب المتحدث: ولو، ألا تعرف الأنظمة وألاعيبها؟
نقول له إننا أرسلنا زملاء إلى هناك، أشاروا بوضوح إلى عناصر القلق، وإلى وجود عمليات تخريب، وسمعوا من المواطنين حكايات عن هذا الأمر، يعود الجواب نفسه: لو لم يضمنوا أنكم ستصدّقون روايتهم لما سمحوا لكم أصلاً بالذهاب. تجيبهم: لكنّ بعض مراسلينا ذهب سرّاً، ولم يفصح عن هويته المهنية، حتى عندما اعتُقل أحدهم لم يقل إنه صحافي.. لكن، عنزة ولو طارت، الجواب هو نفسه: كلّو كذب بكذب!

طيّب، لماذا عليّ أن أصدّق وكالة «رويترز» عندما قالت إن نحو عشرة آلاف كانوا في تظاهرة الميدان في دمشق، بينما أحد الزملاء كان هناك، شارك في الصلاة، ثم خرج مع المحتجين من المسجد إلى الشارع، وسار معهم، وظل يراقب المشهد حتى انتهى، وقال إنه لم يرَ أكثر من 500 شخص على أبعد تقدير! لماذا عليّ أن أصدّق «رويترز» وهي تنقل عن شاهد عيان مجهول أو تستند إلى شخص مثل وسام طريف، الموجود في لاهاي ومدريد منذ ما قبل اندلاع الاحتجاجات، وهو يعمل مع جهات تموّلها حكومات الغرب، ومكلّف رسمياً بأعمال ضد النظام في سوريا؟…

في المقابل، ثمّة مشكلة أكبر عندما يقول لك أحد المقرّبين من الحكم في سوريا: لم يخرج إلى الشارع إلا بضع عشرات من المطالبين بالإصلاحات، أما بقية الناس فهم من ضمن برنامج معدّ سلفاً! تسأله: لكن، ألا يستغل المخرّبون الحشود عادة؟ يجيبك: بلى، لكنّ المخرّبين هم الذين يقفون خلف التحرك! نعود إليه: أليس هناك ما يوجب تظاهر المواطنين للمطالبة بحقوق؟ يقول لك: نعم، ولكن الأمر لا يحصل بهذه الطريقة. اتركوا للحكم أن يقوم بالإصلاحات وانسحبوا من الشوارع. ولكن كيف يضغط المواطنون عادة للحصول على الحقوق، أليس التظاهر وسيلة أساسية؟ يجيبك: بلى، لكن لا تسير الأمور هكذا فجأة!

السابق
تخلف ديني متبادل
التالي
مكلفة، ولكن…