كيف يقرأ “حزب الله” التعديل “المفاجئ” للقرار الظني؟

 تفضل دوائر القرار في "حزب الله" ان تطلق على الاعلان الصادر قبل ايام عن تعديل ثانٍ أدخله المدعي العام التمييزي للمحكمة الدولية دانيال بلمار على القرار الظني، بأنه يشبه "الجرعات التذكيرية" التي تعطى عادة للاولاد والاطفال بين فترة واخرى.
ففي رأي هذه الدوائر ان توقيت هذا الاعلان مشبوه بكل المقاييس والمعايير، ويندرج تماما في خانة الاهداف والمقاصد السياسية غير البريئة التي من اجلها انوجد القرار اصلا بالصورة التي آب اليها منذ نشرت مجلة "دير شبيغل" الالمانية النسخة الاولى لمضمونه المفترض قبل اكثر من عام، ثم تكفلت وسائل اعلام اجنبية اخرى الافصاح تدريجيا عما يمكن ان ينطوي عليه، حتى اوشك القرار ان يصير مكشوفا بكل تفاصيله، قبل ان يصدر بصورته النهائية.

وعليه لم يكن في عرف هذه الدوائر امراً عابراً ان يعلن اولاً في العشرة الأخيرة من شهر كانون الثاني الماضي عن تسليم القاضي بلمار قاضي الامور التمهيدية دانيال فرنسين القرارَ، متزامناً مع اسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري الاولى.
ولم يكن ايضاً امراً خالياً من الشبهات ان تتحدث مصادر المحكمة الدولية اياها عن تعديل اجري على القرار نفسه من جانب فرنسين مترافقاً مع بدء رئيس الوزراء المكلف نجيب ميقاتي استشاراته الملزمة توطئة لإطلاق الحكومة المقبلة.
ففي المرتين السابقتين، واللتين لم تفصل بينهما سوى ايام معدودات، وتلك سابقة في عالم القضاء بلونيه المحلي والدولي، كان المرتجى والمقصود منها اطلاق موجة ضغوط على الوضع السياسي اللبناني، وتحديداً على الاكثرية الجديدة التي ظهرت الى حيز الضوء اخيرا، وادى ظهورها الى قلب صورة الاوضاع بعدما صارت الاقلية اكثرية، وتالياً بعدما بات واضحاً ان مسار الاوضاع يوحي بانفلات حبل الامور من يد الحريرية السياسية وما تمثله من ارتباطات.

في ذلك الوقت وصل المتابعون الى استنتاج اكيد ان المحكمة وقرارها الموعود منذ زمن يحرَّكان على وقع تحول الاوضاع في لبنان، وبمعنى اخر، ووفق الدوائر اياها، اكد القيمون على هذه المحكمة بالدليل الحسي، ما سبق وان سعوا تكراراً الى نكرانه ودفعه، وهو ان هذا القرار الظني أعد اصلاً ليحكم قبضة فريق معروف على الواقع اللبناني، وليحاصر فريقاً آخر.

وتقر الدوائر ذاتها، بأن هاتين الحركتين السابقتين للمحكمة الدولية قد بسطت ظلالها على المسرى العام للأوضاع في لبنان، وخلفتا تأثيرات لا تزال قائمة، رغم ان القرار بقي مجرد سيف مصلت فوق الرؤوس، كي لا يفقد فاعليته الكبرى اذا ما انزل، وخصوصاً انه يفقد قيمته وهالته اذا ما صدر بشكل نهائي.

ونسجاً على المقياس عينه، تقول الدوائر نفسها ان الحديث عن تعديل ثانٍ ادخل على القرار اياه بيد بلمار، وتسليمه مجددا الى فرنسين لدراسته، يأتي في السياق نفسه اي التهويل والتلويح به في مرحلة سياسية دقيقة وحساسة، وهي مرحلة الدفع القوي الذي تمارسه مكونات الاكثرية الجديدة لإزالة العثرات الحائلة دون ولادة الحكومة، وبالتالي الخروج من الفراغ الحكومي الذي بات يحسب علامة ضعف عليها.

وبمعنى آخر، شاء الاعلان في هذه المرحلة من تحريك القرار الظني بعدما أوشك ان يضيع في سراديب النسيان بسبب تمنع المحكمة الدولية عن اصداره في أوقات كانت هي والمقربون منها حددوها تباعاً منذ اشهر الصيف الماضي.
ولم يعد خافياً ان الجهات اللبنانية المعنية بهذا القرار، وصلت اخيراً الى استنتاج فحواه ان القرار مرجأ ما دام الوضع العربي يعيش هذه الفورات والتحولات الجذرية، وسط التطورات المدوية، حتى لا تضيع اصداؤه ويفقد قيمته وهدفه الاصلي.
وعليه، فإن الدوائر نفسها باتت تقيم على قراءة متأنية فحواها ان "التذكير" بالقرار الظني على هذا النحو في مرحلة السعي الجدي والحثيث لأطراف الاكثرية الجديدة للخروج من متاهات الفراغ الحكومي المكلف، له ايضا غاية اخرى تتصل بمسار الاوضاع في سوريا وممارسة مزيد من حلقات الضغط على النظام السوري، لأن هذه الدوائر تعتقد اعتقاداً يقارب الجزم، أن القرار الموعود سيأتي على ذكر دور ما لسوريا.

وذلك امر ليس بالبريء، في مرحلة ظهرت فيها مؤشرات ومعطيات تؤكد ان النظام في دمشق نجح الى حد كبير في تجاوز حلقات الازمة التي أدخلت فيها سوريا قسراً، قبل ما يقرب من شهر ونصف شهر، وتتجاوز تداعيات المؤامرة التي حيكت خيوطها حولها بجدارة.

ولم يعد خافياً ان حلفاء سوريا في لبنان، باتوا مطمئنين كل الاطمئنان الى ان حليفهم التاريخي ابلى بلاء حسناً في معركة مواجهة شرسة مع مؤامرة دبرت ضده في ليل، وشاركت فيها اكثر من عاصمة، وكانت تهدف الى احد امرين، اما اسقاط النظام السوري نهائيا، او اجباره على الانصياع الى ما رفض سابقا التجاوب معه.

وعليه، ثمة من "لعب" مع النظام السوري لعبة ان يقبل بتغيير هويته التاريخية وطبيعته من خلال قبوله بإشراك "الاخوان المسلمين" في ادارة شؤون البلاد، وهو دور اجادته انقرة، تحت عنوان انه خريطة طريق للإصلاح.
وثمة من مارس دوراً آخر وهو ان يقبل بفصم علاقته الوثقى التاريخية مع طهران و"حزب الله" وحركة "حماس"، كشرط للكف عن حملات التحريض الاعلامية ضده مع ما تحتويه من عناصر تضخيم وتهويل، وهو امر نفذته انظمة خليجية.
وكلا "الشرطان" اللذان ابلغا الى الاسد كانا يفرضان تحت وطأة التحشيد في درعا الحدودية التي اريد لها ان تكون "بنغازي" سوريا، اي قاعدة التحضير للانطلاق في الهجوم على العمق السوري وصولاً لجعلها حضن كل الرافضين للنظام، والساعين لاستدراج التدخلات الخارجية، على غرار ما حصل في ليبيا.

لكن النظام السوري تنبه للامور الثلاثة معاً، فرفض العرضين السياسيين ووجه ضربة عسكرية كبرى الى درعا وما تحتويه وترمز اليه، وأثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه ما برح نظاماً قوياً يتمتع بقاعدة شعبية عريضة، اذ لم يشهد اي شاهد خروج تظاهرات حاشدة على غرار ما حصل في مصر وقبلها في تونس يستطيع معها من يشاء ان يقول إن النظام السوري فقد شرعيته.

وعليه، لم تفاجأ الدوائر عينها بتقاطر المواطنين العرب وغير العرب الى دمشق مجدداً، فالامر تم بعدما اثبت النظام عملياً أنه يمسك بقوة بالجيش والامن وبزمام الامور.
ولا ريب في ان الدوائر عينها ما برحت تنظر بعين الريبة الى هذا الاستهداف الواسع للقوات الامنية السورية، فترى فيها محاولة مكشوفة للتأثير على "عصب" النظام المكين، وجعله يتشتت، وهي محاولة شبيهة بما مارسته المجموعات الارهابية في الجزائر في عقد التسعينات من القرن الماضي.

ومهما يكن من امر، ففي رأي حلفاء دمشق، ان حليفهم يحتاج الى بعض الوقت ليعيد الامور الى مربعها الاول، والى مجاريها، استعداداً لمرحلة جديدة.
وعليه، كان واضحاً بالنسبة اليها ان "التذكير" بالقرار الظني مجدداً في هذه المرحلة هو جزء لا يتجزأ من حملة الضغط على سوريا وعلى حليف سوريا في لبنان.
ولا يخفي هؤلاء بأنهم يعدون العدة للرد.

السابق
بقرة وأرانب ومائة دجاجة
التالي
الإعلام التحريضي