حرية الكلمة ضريبة دم دفعها شهداء الصحافة

عام بعد عام تمر مناسبة ذكرى شهداء الصحافة في السادس من أيار والكلمة ما زالت مشروعاً للشهادة والصحافة ما زالت تهمة تحتاج الى التبرير، وبالتالي الصحافي بات عليه أن يكون مقاوماً كي يواجه القمع بالحبر·
أما الشهداء فما زالوا يسقطون الواحد تلو الآخر، فالمعارك لم تنته منذ العام 1915 حتى عامنا هذا·

تاريخ حافل من القمع الأجنبي والمحلي، والصحافة لم تبخل في تقديم الشهيد تلو الشهيد أملا في <حرية مستدامة>· بداية مسيرة الشهادة في الصحافة كانت في 21 آب 1915 حين اعدم جمال باشا محمد المحمصاني وشقيقه محمود في <ساحة الاتحاد> التي عرفت لاحقا بـ <ساحة البرج> وأخيرا صارت <ساحة الشهداء>· أما المحطة الثانية فقد كانت بالجملة، اذ اقتيد في 6 أيار من العام 1916 أحد عشر صحافياً ومنهم أحمد حسن طبارة، سعيد فاضل عقل، عمر حمد، عبد الغني العريسي، الأمير عارف الشهابي، باترو باولي وجورجي حداد· وفي 5 حزيران أي بعد أقل من شهر، انضم فيليب وفريد الخازن الى قافلة الشهداء· وتوقفت مسيرة تصفية الصحافيين مع انتهاء حكم جمال باشا السفاح وانهيار السلطنة العثمانية· لكنها استأنفت ظلمها في 7 أيار 1958 مع الرصاصات التي اخترقت جسد نقيب المحررين السابق نسيب المتني الذي كان مناوئا لعهد الرئيس كميل شمعون·

وفي 16 أيار 1966 سقط كامل مروة في مكتبه، بعدما نجا في العام 1948 من حادث كاد يودي به حين كان يغطي أخبار النكبة في فلسطين· كان مؤيدا لحلف بغداد ومناهضا لجمال عبد الناصر والاشتراكية والشيوعية· المتني ومروة، سقطا على مسافة من السِّلم وغداة الحرب الأهلية التي تكفلت بتصفية الصحافيين الواحد تلو الآخر، علّها بذلك تدجن لبنان· الخطوة التالية كانت في 16 أيار 1976 حين <أُجلس> ادوار صعب على عرش الشهادة· كان متوجها الى مكتبه في الحمرا حيث يرأس تحرير <لوريان لو جور> فإذا برصاصات قنّاص لا يزال مجهولا، تُحوّل مساره·

وبعده، كانت اشنع الميتات من نصيب الصحافي سليم اللوزي، أحرقت يده بالأسيد وأطلق الرصاص على مؤخرة رأسه· هكذا وجدت جثته بعد 8 أيام على اختطافه في 4 آذار 1980، اثناء توجهه الى المطار بعدما حضر جنازة والدته، على أن يعود الى لندن حيث كان يصدر مجلّته <الحوادث>· وبعد أشهر قليلة، كانت ست رصاصات في انتظار نقيب الصحافة رياض طه لتجعله الهدف التالي وتحديدا في الذكرى 28 لثورة 23 تموز التي تعاطف معها· هو ابن بلدة الهرمل في البقاع التي عرفت الحرمان·· وكان طه قد تعرّض لمحاولة اغتيال نقل على اثرها الى المستشفى· وبعدما استعاد انفاسه عاود كتابة مقالاته كالمعتاد فسجن في العام 1955 قبل أن يسكت صوته المنادي بالحق·

واستمر القتل··· فكان المفكر والكاتب الصحافي سهيل طويلة الفريسة التالية حين افرغت <ست رصاصات في رأسه وعنقه مما أدى الى قلع عينه اليمنى> كما ورد في تقرير الطبيب الشرعي بعدما عثر على جثته في 24 شباط 1986 في محلة النورماندي·

بعد أقل من عام وتحديدا في 17 شباط، استقبل حسين مروة الحائز جوائز أدبية عدة، قتلته في مهده حيث دخل ثلاثة شبان غرفته ليعدموه عن عمر 77 عاما·

وأن ننسى لا ننسى سمير قصير الذي وقع شهيد استقلال عام 2005 في حزيران ذاك العام حين انفجرت سيّارته، ليتبعه من حمل نعشه ورثاه جبران تويني في انفجار دوّى في 12 كانون الأول من العام نفسه· وبين الشهيدين نجت الإعلامية مي شدياق من تفجير سيارتها·

القائمة طويلة والمساحة لا تتسع لذكر جميع الأسماء التي سقطت دفاعا عن أفكار وقضايا، مهما تباينت فإنها تشهد على انه <لا حرية لأحد من دون حرية الصحافة>·

<إعلاميون ضد العنف> وفي هذا المجال أصدرت جمعية "إعلاميون ضد العنف" نحو 100 بيان على امتداد العام الفائت تناولت فيها بالتنديد والإدانة اعتداءات مختلفة طاولت حرية التعبير والإعلام وفي مختلف القطاعات· والناشطون في الجمعية يؤكدون انهم لا يخشون البطالة في لبنان بسبب ازدياد الانتهاكات ضد الصحافة والإعلاميين، وعدم محاسبة من ينتهكون حرية الصحافة ويتعرضون لها بوسائل عدة· أما مركز "سكايز" (عيون سمير قصير) فأحصى في لبنان 40 دعوى قضائية ضد وسائل الإعلام، 12 اعتداءً ومضايقة وتعرّض للصحافيين والإعلاميين، 14 حالة فرض رقابة إعلامية وسجن واحتجاز حرية واستدعاء واستجواب، إضافة الى 8 حالات رقابة الكترونية·

كذلك اعتبر <مراسلون بلا حدود> في تقرير لمناسبة اليوم العالمي للصحافة ان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا احتلت مرتبة <الشرف> بقمعها للصحافة· وأشار التقرير الى لائحة انتهاكات ترتكب ضد الصحافة خلال ما يسمى "ربيع العرب" في 4 بلدان (سوريا، ليبيا، البحرين، اليمن)، والتي بلغت حد القتل كما حلّ بالصحافي محمد النبوس الذي سقط في 19 آذار برصاص قنّاصي النظام في بنغازي· وأحصيت في ليبيا أكثر من ثلاثين حالة من حالات الاحتجاز التعسفي والترحيل التي وقع ضحيتها مراسلون أجانب· واعتُمِدت الأساليب نفسها في سوريا والبحرين واليمن حيث تكثّف السلطات الجهود لإبقاء الصحافة بعيداً من أعمال القمع بغية منعها من بث صورها· واعتبر التقرير ان الانظمة القمعية معادية تقليدياً لحرية الصحافة بهدف السيطرةَ على القطاع الإعلامي لانه سر بقائها على قيد الحياة· واشار الى أثر الصدمة التي خلّفها "ربيع العرب" جلياً على سياسة الصين التي تخشى العدوى، فعمدت سلطاتها الى تكثيف القمع ضد المعارضين والصحافيين وسجنت الناشطين على الـ <فايسبوك>·

السادس من أيار جاء ذكرى لشهداء الصحافة، وقد اتخذ هذا القرار من قبل نقابتي الصحافة والمحررين اللتين اقترحتاه على اتحاد الصحافيين العرب الذي تبناه بالإجماع إعزازا لشهداء لبنان·

وما نتمناه هذا العام هو أن نفهم معنى الشهادة أكثر مما في كل عام، نفهم معنى الشهادة وارتباطها بالحرية·

في هذه الذكرى تم لقاء عدداً من الإعلاميين لاستطلاع آرائهم في ما خص أوضاع الصحافة في لبنان وما يتعرّض له الإعلاميين عموماً·

نصر الدين نائب نقيب المحررين سعيد نصر الدين أكد ان واقع الاعلاميين في لبنان لا يشجع على الاطلاق، يقول: <في هذه المناسبة لا بد وأن نعود لنؤكد على أهمية الحفاظ على الكيان الإعلامي وهذه المسألة لا يسعنا تفعيلها ان لم نتمكن بالدرجة الأولى من الحفاظ على حقوق هؤلاء وإعطاء كل صاحب حق حقه، ولا سيما ان هؤلاء الإعلاميين يضعون حياتهم باستمرار في دائرة الخطر كي يؤمّنوا لنا الأخبار· لذلك علينا أن نقدم لهم كافة حقوقهم، فالشهداء ليسوا الأموات فقط فهناك شهداء أحياء يعيشون يوميا بيننا نتيجة القهر والظروف المادية المتردية·

من هنا على الدولة أن تحرص على اعطائهم كامل احتياجاتهم المادية وعلى أرباب العمل أن يحافظوا عليهم وأن يحرصوا على تأمين حقوقهم>·

منصور الصحافي والكاتب السياسي سمير منصور تحدث بدوره قائلا: <عيد شهداء الصحافة من المفترض أن يكون محطة جدية للتأمّل ولا سيما لمن يتعرّضون لحرية الصحافة، وبالتالي يجب عليهم أن يعلموا ان دور الصحافي هو إيصال الحقيقة الى الناس كما هي، وهنا يتوجب على الصحافي الالتزام بهذا الدور·

وفي المقابل، الإعلاميون بدورهم عليهم الاستفادة من هذه المحطة لإعادة تصحيح البوصلة إذا صح التعبير واستذكار الصحافة والتأكيد على دورها كرسالة بكل ما للكلمة من معنى وليس فقط لنقل الخبر ونقل الحقيقة بل أيضاً للإشارة الى مكامن الخلل وإصلاحه وهذه مسألة أساسية للصحافة بهدف توجيه الرأي العام ونقل الحقيقة كما هي والتأثير على مواقع القرار لتصحيح الخلل في حال وجوده·

كذلك يفترض أن تكون هذه المناسبة محطة للمسؤولين ولمن هم في السلطة في أي بلد كانوا كي يدركوا تماماً بأن الضغط على الصحافة والضغط على الإعلام ليس هو الحل للمشاكل بل هو أقل ما يقال فيه هروب الى الأمام· من هنا على الحاكم أن يستفيد من الصحافة كي يكون هناك تعاون ليكملا بعضهما البعض للبحث عن مكامن الخلل وإصلاحه>·

مقلد مديرة البرامج في قناة <أخبار المستقبل> ديانا مقلد اعتبرت ان وضع الإعلاميين في لبنان يبقى أفضل بكثير مما يجري في سوريا، وتقول: ما يحدث في سوريا خطير جداً لجهة الإعلام فهناك تقسيم إعلامي كامل في وقت هناك آلاف المعتقلين والمفقودين والصحافة لا تستطيع أن تقوم بأي دور لأنه ممنوع عليها الدخول أو الاقتراب، لأن من يقوم بذلك يقتل أو يصبح تحت المراقبة·

نحن نسمع بعض الناشطين والإعلاميين الذين يقدمون المواضيع عبر الهاتف الا أنهم يختبئون خشية توقيف أقاربهم أو أهلهم، وهذا فعلاً ما يحصل·

مع الاسف، هذا الموضوع بدأ ينعكس على لبنان حيث بات هناك نوع من الترحيب كي لا يحكى بهذه القضية· انطلاقاً من ذلك، أنا قلقة جداً واعتبر ان ما يجري في سوريا هو مؤشر إذا تصاعد سينعكس بكل تأكيد على لبنان والدول المجاورة·

وهبي الإعلامي في <المؤسسة اللبنانية للإرسال> يزبك وهبي أكد ان وضع الإعلاميين في لبنان هو الأفضل تقريباً في العالم العربي مقارنة مع الدول العربية المجاورة، يقول: نحن بالرغم من كل ما يجري في لبنان لا يزال الإعلامي يحظى بهامش واسع من الحرية يمكّنه من التحرك دون أي قمع من السلطات الرسمية اللبنانية ولا سيما في السنوات الأخيرة، وهذه مسألة أساسية جداً·

أما بالنسبة لما يتعرّض له بعض الإعلاميين فكما تعلمين هناك غوغاء لدى كل الناس، وبالتالي هناك غوغائيين ينزلون على الأرض وهم غير تابعين لأي فئة أو أي طائفة أو جهة، هؤلاء أشخاص لا يتمتعون بأية قيم، مهمتهم فقط التعرّض للصحافيين· في حين يأتي أشخاص مقرّبين منهم ليقدموا اعتذارهم للصحافة· هذه ضريبة يدفعها الصحافي كل مرة لكن ما يعزيه أنها لا تأتي من ناس عقلاء بل من ناس جهّال· أحياناً يعرّض الصحافي حياته للخطر وهنا تكمن <شطارته> بأن يحاول قدر الإمكان أن يصوّر أبعاد المشكلة دون أن يكون قريباً منها·

أما بالنسبة لضريبة الدم التي دفعها العديد من الصحافيين دفاعا عن حرية الكلمة فهذه يجب أن ننحني أمامها أياً يكن الصحافي والى أي توجّه انتمى، فكفاه انه دفع دمه سواء سقط جريحاً أو شهيداً، وآخرهم الشهيد الذي سقط في الجنوب عساف أبو رحال الذي دفع ضريبة تغطيته للكلمة الحرة ولنقل وقائع الخبر·

ومهنتنا كما تعلمين هي مهنة البحث عن المتاعب وأيضاً هي مهنة تحدي المخاطر·

لذلك، أنا كإعلامي انحني أمام كل تضحية قدّمها صحافي على امتداد العصر من العام 1916 حين سقط الشهداء في عهد جمال باشا الى آخر شهيد سقط سواء على صعيد الحرب مع إسرائيل أو سواء خلال مشكلة داخلية لبنانية لأنه قدّم حياته في سبيل حرية الكلمة وحرية لبنان·

دياب ختاماً، تحدث مدير أخبار <تلفزيون لبنان> صائب دياب فلفت الى ان ذكرى السادس من أيار كل عام تبدأ بالشهداء الذين سقطوا خلال الحقبة العثمانية، يقول: <شهداء الصحافة كان لهم الدور الأبرز في محاربة الظلم في تلك الحقبة وما عقبها على فترات زمنية امتدت الى يومنا الحاضر، وفي وقتنا الحالي ما زال الإعلاميون يدفعون ثمن الكلمة بالدم وخصوصاً ان الاوضاع في لبنان والمنطقة تتسارع وتشهد قتلاً للأنفاس ومنها نفوس الإعلاميين الذين يستشهدون من أجل الحرية والديمقراطية وإعلاء شأن الكلمة الحرة وهناك شواهد كثيرة سقط فيها إعلاميين على مدى التاريخ اللبناني وخصوصاً على مدى سنوات الحرب التي بدأت في مطلع السبعينات وامتدت الى يومنا الحاضر· ومع ما مرّ في كل هذه الفترات من حروب سواء داخلية أم عن طريق الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة بين كل حين وآخر على الأراضي اللبنانية لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تعدّاه، فالإعلامي مهدد بحياته بالاغتيال إذا نطق بالحقيقة أو إذا ناصر حقاً أو قضية·

ومن هنا يقتضي بالدولة أن تضع تشريعات إضافية كي تحمي أهل الإعلام والصحافة من كل يد غادرة وتعاقب بشدة كل من يعتدي على الجسم الإعلامي>·

ونحن بدورنا نأمل أن تبقى حرية الإعلام مصانة كي نتمكّن من إيصال الحقيقة كما هي، مع تمنياتنا بأن يبقى لبنان منبراً مشعّاً للكلمة الحرة والمسؤولة، وكل عام وجميع الإعلاميين في بلادي بألف خير، وتصبحون على حرية···

السابق
عن عامل سوري في لبنان
التالي
دولة فلسطين في أيلول..وحق العودة