الإعلام التحريضي

في عالم أصبحت فيه وسائل الإعلام الفاعل الرئيسي في تشكيل الرأي العام ليس المحلي وإنما العالمي، وما لذلك من انعكاسات سياسية على مصير الدول والشعوب،

أصبحت تلك الوسائل تكتسب أهمية استثنائية وتضطلع بدور غير مسبوق في رسم خرائط جديدة لعالم اليوم ويصبح الدور أكثر خطورة واستثنائية عندما تمتلك تلك الوسائل بحكم إمكانياتها والقوى الداعمة لها وطريقة تعاطيها مع الأحداث والقضايا التي تهم المشاهدين جمهوراً واسعاً ومصداقية عالية، ولا شك أن وسائل الإعلام الخاصة التي يعج بها الفضاء الدولي المفتوح ليست جميعها على مستوى واحد بحكم عوامل عديدة تتعلق بإمكاناتها التقانية والمادية ومستوى الكوادر التي تديرها أو تشرف عليها، ناهيك بمرجعياتها الفكرية والأيديولوجية والرسالة المنوطة بها والتي تهدف لتحقيقها، وقناة الجزيرة هي واحدة من أهم الأقنية الفضائية التي استطاعت أن تكتسب جمهوراً واسعاً في المنطقة العربية وخارجها لاعتبارات عديدة يأتي في مقدمتها: إمكانياتها المادية واتساع شبكتها المخدمة لها والتي شملت قارات العالم إضافة إلى كوادرها المؤهلة تأهيلاً مهنياً عاليا،ً وإلى جانب ذلك استفادت تلك القناة من نقاط ضعف الإعلام العربي الرسمي وما يتسم به من ابتعاد عن قضايا الناس وتماهيه شبه الكامل مع سياسات الدول التي ينتمي اليها دونما مراعاة للحقيقة، ناهيك بانخراطه في عمليات التسويق والتبرير لبرامج حكومية لا تقنع الرأي العام، يضاف إلى ذلك ضعف العاملين على إدارته وافتقاره للكوادر المؤهلة لقيادة العمل الإعلامي الناجح، هذه العوامل مجتمعة أو منفردة جعلت المواطن العربي يشيح بوجهه عنها ويشكل صورة انطباعية سلبية عن أدائها ودرجة مصداقيتها، ولا شك أن هذا التوصيف له بعض الاستثناءات في بعض وسائل الإعلام الرسمية ولكنه استثناء في الدرجة وليس في النوع.‏

وعندما انطلقت قناة الجزيرة بقوتها وزخمها ودراستها للبنية النفسية للمواطن العربي الذي ضاق ذرعاً بإعلامه وجد فيها المشاهد العربي سفينة إنقاذ له، فأصبح يستمع للرأي والرأي الآخر والحديث عن كل ما كان بالنسبة له تابو لا يجوز الغوص أو الحديث فيه، ففتحت أمامه آفاقاً جديدة واكتشف عورات وعيوب إعلامه الذي قام بعملية غسيل دماغ له طوال عشرات السنين، جعله يعيش عالم خيال لم يلمسه في حياته العملية أبداً، وازدادت القناة جماهيرية بتغطيتها الموضوعية للغزو الأميركي للعراق وحرب تموز عام 2006 التي شنها الكيان الصهيوني على المقاومة الوطنية اللبنانية وكذلك العدوان على غزة بعد ذلك بسنتين بحيث تشكل انطباع أنها تقف إلى جانب القوى المقاومة على الساحة العربية سواء تنظيمات أم دول، ومع اندلاع موسم الثورات والانتفاضات العربية يمكن للمتابع الموضوعي أن يكتشف أن القناة بدأت تدخل العامل السياسي في خطها التحريري والإعلامي، فعلى الرغم من أنها التحقت وغطت الحدث التونسي بشكل واضح وكذلك ما حدث في مصر إلا أنه يجب علينا أن نتذكر أن العلاقة السياسية بين القيادة المصرية وحكومة قطر لم تكن إيجابية وبرز البعد السياسي في تعاطي القناة مع الأحداث بشكل واضح بما جرى في ليبيا بحيث شكلت القناة الذراع الإعلامية التي تمهد للقصف العسكري الغربي على الشعب الليبي ونحن عندما نقول ذلك لا نبرر أن يقتل مواطن ليبي شريف على يدي اخيه الليبي او من قبل الحكومة الليبية.‏

إن نقطة التحول في المسار المهني ودرجة الموضوعية في تعاطي القناة مع الأحداث الجارية في المنطقة كان واضحاً في تناولها للحدث السوري، فإذا كان من الطبيعي أن تنال الأحداث الجارية في سورية مكان الصدارة لدى وسائل الإعلام نظراً لما تمثله من ثقل اقليمي ودولي، إلا أن ما يثير الانتباه والتساؤل هو طبيعة التعاطي مع الحدث فمن الواضح أن ما يجري على الارض من حراك اجتماعي لا ينعكس بحجمه ولا بمجرياته مع ما تبثه القناة، فإذا كان من الضرورة والأهمية أن تتصدر تظاهرات مليونية في مصر واليمن أو أعمال قتالية ودمار وعنف شاشة الجزيرة ومساحة واسعة من تغطيتها الإخبارية فمن غير الطبيعي أن تتعاطى القناة مع الحدث السوري بذات المساحة والزخم والتركيز مع تظاهرات بالمئات او الآلاف تحدث في مناطق بعينها في سورية مع تغييب مقصود لما يتم تغطيته وعرضه على وسائل الإعلام السورية وهو مدعم بالصور والشواهد الحية من مظاهر عنفية لا ترتبط بالمشهد الاصلاحي لحالة التظاهر السلمي، وهنا يصبح التشكيك في حيادية ومهنية وموضوعية القناة فيما يتعلق بذلك مبرراً ومشروعاً لكل باحث عن حقيقة ما يجري .‏

ورب قائل يقول اننا ننطلق من نظرة ذاتية في نقدنا هذا بحكم انتمائنا الوطني او عملنا المهني وهو أمر له ما يبرره، فلا نحن ولا غيرنا يستطيع التعامل مع حدث وطني يرتبط بمصير بلدنا ومستقبل أبنائنا بحيادية تامة فالبعد الوجداني حاضر تماماً ولكنه ليس المعطى الكلي الذي يصل إلى درجة التموضع التام في الحالة وانعدام الموضوعية فيها، هذا من جهة ومن جهة أخرى ما الرد على من يقول كيف تكون القناة موضوعية إلى جانب العراقي والمقاوم اللبناني والفلسطيني وتكون عكس ذلك مع الحدث السوري فالمسألة عندكم شخصية او ذاتية؟ وهنا نقول ما درجة تأثير قناة الجزيرة أياً كان توجهها على الرأي العام الأميركي أو الاسرائيلي عند احتلال العراق أو حرب تموز أو عدوان غزة والجواب هو بالتأكيد لا شيء وهنا يصبح ذلك الخط الذي اتخذ هو الضروري والوحيد، الذي لا فكاك للقناة منه لتستمر في كسب أوسع جمهور لها ليكون رصيد لها فيما يخبئه قادم الأيام من مهام .‏

لقد كشفت قناة الجزيرة كل ما هو مستور في أجندتها وتحولت إلى أداة تحريض وتهييج للشارع السوري وقامت بدور وظيفي في كل ما يجري، مستغلة حالة الانفعال الجماعي الذي تثيره الأحداث الساخنة، حيث يفتقد المشاهد والمتابع للحدث القدرة على المحاكمة نتيجة لتسارع الأحداث وإيقاعها السريع، فيتعامل مع الصورة بحواسه لا بعقله، ما يجعله أكثر تأثراً بما تقدمه وهنا تكمن خطورة ما تبثه وسائل الإعلام في زمن الأزمات.‏

فلو كان الوقوف إلى جانب المقاومة نهجاً ثابتاً في الجزيرة لكانت بشكل طبيعي في الخندق السوري المقاوم أو على الأقل تعاملت معه بحيادية وموضوعية ولكن واقع الحال هو غير ذلك، فقناة الجزيرة تحولت إلى قناة للرأي دون الرأي الآخر ومن سفينة إنقاذ للمواطن العربي إلى طوربيد لقصف الأوطان، وعلينا أن لا ننسى أن الأزمات هي المحك للمصداقية وحقيقة الهوية .‏

السابق
كيف يقرأ “حزب الله” التعديل “المفاجئ” للقرار الظني؟
التالي
بداية ونهاية أميركا في الخليج العربي