بن لادن

إن للموت لرهبة، فهو نهاية الدنيا وبداية الآخرة، وهو الحد الفاصل بين العمل والجزاء. وقد أخبر الله ـ عز وجل ـ أن الحساب مع الإنسان يبدأ ساعة قبض روحه، وأن من أحسن في حياته فإنه ينال جزاءه الحسنى، قال تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون). أما من أساء إلى نفسه ودينه وإلى الناس فإن الله هو الكفيل بمعاقبته، قال تعالى (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون. فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين). فإذا مات الإنسان فإنما حسابه على الله (وإن عليكم لحافظين. كراما كاتبين. يعلمون ما تفعلون)، ولا يبقى منه في الدنيا إلا الذكرى والتاريخ وآثار عمله. وهذا ما تبقى من أسامة بن لادن، الذي أعلنت القوات الأميركية عن مقتله فجر يوم الاثنين 29 جمادى الأولى عام 1432هـ.

والمروءة العربية تقتضي عدم الشماتة في الأموات انسجاما مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم في أدب إسلامي رفيع عن سب الميت، حتى ولو كان عدوا مشركا، لأن السب يؤذي الحي ولا يبلغ الميت. وهذا ما أود تأكيده في حال أسامة بن لادن.

إن موت أسامة بن لادن الفعلي لم يكن حين استهدف في مخبئه في باكستان، وإنما كانت نهايته منذ انحرف عن جادة الصواب واختار طريق التكفير والتفجير وقتل الأبرياء. وقد أفضى أسامة إلى ما قدم من أعمال حسنة وسيئة ليحاسبه الله عليها، إلا أن آثار أعماله لاتزال قائمة للعيان تستدعي محاكمة التاريخ التي تختلف عن محكمة الآخرة، فإننا نتذكر لأسامة جهاده ضد الروس في أوائل هذا القرن الهجري، عندما وهب نفسه، مع مجموعة من المجاهدين، لجمع الأموال وحشد الجهود لنصرة المستضعفين الفقراء في أفغانستان. وعندما تم طرد الروس عام 1409هـ واستعاد الأفغان السيطرة على بلادهم، رجع كثير من المجاهدين العرب إلى بلادهم، إلا أن أسامة ومجموعة معه أبوا إلا التورط في الصراع بين القادة الأفغان، وحملوا السلاح في حرب أهلية لا علاقة لهم بها أراقوا فيها الدم الحرام. بعد ذلك استمر بن لادن في مسيرة الانحراف والغلو، مسيئا إلى نفسه وعائلته وبلده ودينه، فلجأ إلى خطاب الكراهية والتكفير مستغلا مآسي المسلمين، ليجند مجموعة من الشباب من أجل تنفيذ أهدافه. فكفر الحكومات الإسلامية، والمسلمين، وأراق دماء الأبرياء من المدنيين في شتى أنحاء العالم وهو أثناء ذلك كله مختبئ في الكهوف، قبل أن ينتقل إلى قصره الذي لقي حتفه فيه.

بل إن جناية بن لادن طالت أبناءه، مورطا إياهم في معارك لا علاقة لهم بها، الأمر الذي عرضهم للقتل والأسر والإهانة. كما أساء إلى عائلته الذين بنى لهم والده ـ رحمه الله ـ سمعة طيبة في الداخل وعلى مستوى العالم، فكانت جرائم أسامة سببا في تعرضهم للمحاكمات والمضايقات. وقد قال الله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى). في الوقت الذي أساء فيه إلى بلده مرات كثيرة، عندما استهدفه بالتكفير والتحريض، فكان تفجير العليا عام 1415، تلت ذلك خطاباته في تكفير الحكومة والتهجم على سماحة المفتي ابن باز ـ رحمه الله ـ ثم قام بجريمتين كبيرتين: تمثلت الأولى في التغرير بشباب هذا الوطن وتوريطهم في معارك لا علاقة لهم بها، فزج بهم في البوسنة والهرسك، وفي السودان والصومال، وغيرها من البلاد. ثم تواصل استهدافه المملكة العربية السعودية، هذا البلد المسلم الآمن، بعمليات تفجيرية لا تفرق بين مسلم وغير مسلم، ولا بين رجل وامرأة، ولا بين طفل وشيخ، مما نتج عنه مقتل وإصابة المئات من الأبرياء وتهديم الممتلكات وترويع الآمنين. أما إساءته إلى الإسلام فكانت بقيام زبانيته بتخبئة المتفجرات داخل المصحف الشريف واستحلال الحرم، وقد قال تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم)، وبجرائمه الإرهابية التي وضعت المسلمين في العالم في موضع التهمة، وأدت إلى التضييق على الأعمال الخيرية الإسلامية والدعوة إلى الله وتعليم القرآن الكريم، كما جعلت هذه الأعمال الإرهابية الإسلام والمسلمين هدفا لحملات الدعاية المغرضة التي تحاول الانتقاص منهم بأي وسيلة كانت.

إن هذه الأحداث المؤسفة يجب ألا تحول بيننا وبين أن نستخلص لأبنائنا العبر من سيرة هذا الرجل، وأن نبين لهم كيف أن الغرور والتطرف يفسدان العمل الصالح، ويتحول بسببهما المرء إلى أداة مجرمة للقتل والتدمير وهو يظن أنه يحسن عملا. إن حماية هذا الجيل إنما تكون بالتشبث بسماحة ديننا وبالالتفاف حول ولاة الأمر واحترام الراسخين في العلم، وبالارتقاء بسلوكنا للمعايير التي وضعها لنا نبينا سيد الأخلاق: (وإنك لعلى خلق عظيم)، وقوله صلى الله عليه وسلم «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا..»، وألا يتحول الشباب إلى أداة بيدي صانعي الحروب وتجار الدماء، بل ليعملوا على بناء نهضة أمتهم، وأن يكونوا في تعاملهم قدوة حسنة للمسلمين وغير المسلمين، ليبينوا عظمة هذا الدين الحنيف، لا أن يكونوا سببا في إعطاء فرصة لأعداء الدين لوسم الإسلام والمسلمين بالإرهاب والتطرف.

السابق
هل نعيد أخطاء التسعينات.. ولكن مع إيران هذه المرة؟
التالي
الراي: أوساط ترصد “تمايزاً” بين سورية و”حزب الله” من الملف الحكومي