الارهاب.. وعـمـلـيّـة اغـتـيـال بـن لادن

كان الإرهاب منذ الجريمة الأولى مع قايين وهابيل، وهو اليوم، وسوف يبقى إلى أبد الآبدين لأنه جزء أساسي من الطبيعة البشريّة.
لكلّ إرهاب ظروفه الاجتماعيّة، السياسيّة والاقتصاديّة. كما أن تسميته هي أمر نسبيّ، يتعلّق بأين يقف المرء وفي أي جهّة، فمُقاوم الاحتلال هو بطل لأمّته وإرهابي للمُحتلّ. وقد يمكننا هنا تطبيق مبدأيّ الدائرة والسهم على الإرهاب. فهو يتكرّر كما مسار الدائرة المُغلقة، لكنه متغيّر يتبع السهم في تبدّل الظروف التي ذكرناها أعلاه، ويتأقلم معها كما الحرباء التي تبدّل لونها حسب محيطها.

الإرهاب تكتيك وليس عدوّاً. يستعمله الضعيف ضدّ الأقوى، كما هو وسيلة في يد الدولة ـ الأمة تستعمله في الداخل كما في الخارج. ويُقال هنا إن القائد المغوليّ تيمورلنك، كان أول من استعمل إرهاب الدولة.
إنه وسيلة سياسيّة بامتياز. لا يهدف إلى دحر قوّات العدو وجحافله عسكريّاً. فمعركته الأساسية تدور حول الرأي العام، المحليّ، الإقليمي كما الدوليّ. والهدف بالطبع هو جعل الآخر الأقوى يُغيّر أهدافه السياسيّة، عبر رفع الكلفة ـ الثمن، وطبعاً عبر استراتيجية استنزاف طويلة الأمد، لأن النصر الحاسم هو أمر غير ممكن.

يقول المفّكر والكاتب جاريد دايموند، إن أول إرهابيّ انتحاريّ في تاريخ البشريّة هو الفيروس. فهو يضرب جسم الإنسان، يقتله ليموت معه في الوقت ذاته. وإذا تأقلم جسم الإنسان، يتأقلم الفيروس بدوره، وهكذا دواليك في عمليّة الفعل وردّ الفعل.
يذكر لنا التاريخ عمليات ارهابيّة انتحاريّة عديدة، بتعدّد الثقافات، الحضارات والأديان. فمقولة شمشوم، عليّ وعلى أعدائي يا ربّ، هي عمليّة انتحاريّة وبامتياز. يتكرّر الأمر مع حضارات أخرى في الهند، كما في اليابان مع طيّاريّ الكاميكاز خلال الحرب الثانية، مع ان كلمة كاميكاز تعني الرياح المقدّسة التي ضربت الاسطول المغوليّ الذي اراد غزو اليابان عبر كوريا. يصدف اليوم، ان هذه العمليّات تحدث تحت طابع وغطاء إسلاميّ ـ تكفيريّ لا يمت الى الدين الحنيف بأيّة صلة ـ راجع اعلاه نظريّة الدائرة والسهم.
هكذا كانت ظروف تشكّل تنظيم «القاعدة»، فهي نشأت في مرحلة الحرب الباردة، واستمرّت الى ما بعدها ـ القرن الواحد والعشرين.

بيئتها مُعولمة، تراجع فيها دور الدولة ـ الامّة كثيراً، واصبحت المنّظمات من خارج اطار الدولة، لاعباً اساسيّاً يتأثّر ويؤثّر في النظام العالميّ القائم، بحيث قال المفكّر الاميركيّ ريتشارد هاس عن النظام العالميّ القائم اليوم، إنه عالم اللاقطبيّة ـ القوّة موزّعة على الكثير الكثير من اللاعبين. وقال البعض الآخر، إن نظريّات العلاقات الدوليّة التي نعرفها، لم تعد ناجعة لأنها لم تستطع تفسير ما حصل في 11 ايلول 2001.

وبسبب الثورة في عالم الاتصالات والتكنولوجيا، اصبح العالم الافتراضيّ عالماً مؤثّراً في ديناميّة لعبة القوّة، الطريّة كما الصلبة. فقد أُضيف بسبب هذه الثورة، بُعد رابع على الابعاد التي كانت قائمة، البحر، الارض، الهواء حيث كان يدور الصراع عادة، الا وهو السيْبر –Cyberspace. في هذا البُعد الجديد، لا يمكن الالتحام الجسدي ـ الماديّ مع العدو لتدميره، كما لا يمكن حتى تحديد من هو العدو. وإذا اعتبرنا ان كلّ العمليّة السياسيّة ومفاهيمها تقوم على تحديد من هو العدوّ ومن هو الصديق، كما قال الفيلسوف السياسيّ الفرنسيّ جوليان فرويند، فإن السيْبر سوف يُغير الكثير من المفاهيم، والسلوكيّات المستقبليّة.

في قتل زعيم تنظيم
«القاعدة» اسامة بن لادن!
تندرج أهميّة تنظيم «القاعدة» في انه هزّ النظام العالميّ الآحاديّ في 11 ايلول العام 2001. مرّ الحدث، ولا تزال تداعياته الزلزاليّة ظاهرة حتّى الآن. فقد حرّك الحدث العملاق الاميركيّ. وعندما يتحرّك هذا العملاق، يهتزّ العالم. حدث هذا الأمر في الحرب العالمية الاولى من العام 1918، كذلك الامر في الحرب الثانيّة 1945، وحتى بعد سقوط الدبّ الروسيّ من العام 1989.
قبل 11 ايلول، كانت اميركا تملك فائضاً من القوّة لا مثيل له في تاريخ الإمبراطوريات، لكن دون شهوة الاستعمال. بعد 11 ايلول، تمازجت القدرة الهائلة مع شهوة لا مثيل لها، فكانت العسكرة التامة للسياسة الخارجيّة الاميركيّة، فغابت الدبلوماسيّة تماماً. يبدو مع الرئيس باراك اوباما، ان اميركا توصّلت الى وعي محدوديّة استعمال القوّة.

كان «القاعدة» قبل 11 ايلول، معضلة لا حلّ لها، فقط لانها لم تكن ظاهرة وماثلة على انها خطر على امنه القوميّ كما تعوّد الاميركيّ خلال الحرب الباردة، خاصة أن ثقافة مؤسساته الامنيّة والعسكريّة، لم تكن مستعدة لنوع كهذا من المخاطر. باختصار، تنظيم «القاعدة» لا مثيل له في تاريخ المنظمات الارهابيّة، ان كان في انتشاره الكونيّ، ووسائله المتواضعة، او في ما قام به من ضرر للجبّار الاميركيّ.
ومن ضمن الفعل وردّ الفعل، تأقلم الاميركيّ مع التحوّلات الجذريّة في البيئة الامنيّة، فعدّل من تنظيمه الامنيّ، ومن استراتيجيّته الامنيّة اللاتماثليّة، وراكم تجارب لفترة عقد من الزمن حول كيفيّة عمل نوع كهذا من المنظّمات، فتحوّلت «القاعدة» من معضلة لا حلّ لها، الى معادلة صعبة، لكن لها حلّ إذا توفّرت المعطيات والمعلومات الاستخباراتيّة. بكلام آخر، مأسس ـ من مؤسسّة ـ الاميركيّ استراتيجيّته الامنيّة للحرب على المنّظمات الارهابيّة، فتحوّل عمله الى عمل روتينيّ، بيروقراطيّ، يستلزم فقط الجهوزيّة الدائمة، والمراقبة المستمرّة بكلّ الوسائل، الارضيّة، البشريّة، الفضائيّة لمن يعتقد انهم يريدون الاذى لمصالح العمّ سام.
هكذا تمّ اغتيال زعيم تنظيم «القاعدة». مرّ عقد من الزمن دون القدرة على قتله. وتقريبا تسعة أشهر من الملاحقة اللصيقة وبكلّ الوسائل. بعدها، تمّت العمليّة العسكريّة بعدد قليل من القوات الخاصة ـ لا يتجاوز الـ 60 عنصراً ـ ولفترة لم تتجاوز الـ 40 دقيقة.

في التحوّلات الجذريّة
ضمن التنظيم:
تبدّل تنظيم «القاعدة» حسب الظروف التي مرّ بها. فقبل 11 ايلول مثلاً، كان هناك مركزيّة قويّة في ما خصّ القيادة والسيطرة، لا بل قد يُمكن القول إنه كان هناك هرميّة ليّنة الى حدّ ما. بعد 11 ايلول، وبدء الحرب على الإرهاب، تشتّتت «القاعدة» وأصبح الأمن العملاني لقياداتها اولويّة بهدف الاستمرار. وعندما يتقدّم الأمن العملانيّ على القيادة والسيطرة المباشرة، تصبح المُنظّمة مُسطّحة وتنتقل المبادرات الاستراتيجيّة، العملانيّة والتكتيّة إلى المستويات الدنيا.
بعد 11 ايلول، وبدء الحرب على العراق وحتى الآن، قد يمكن القول ان ظروف «القاعدة» انتجت ثلاثة انواع من القيادات، وهي:
-القيادة الرئيسيّة المتواجدة وموزّعة بين أفغانستان وباكستان، وهي التي خطّطت وقادت عمليّة 11 أيلول. هذه القيادة أصبحت اليوم رمزيّة، تقود عن بُعد، غير قادرة على التخطيط العملانيّ، والتنفيذ بسبب اولويّة امنها العملانيّ. يندرج بن لادن كمثال حيّ. 
– القيادات الاقليميّة في كلّ من العراق، جزيرة العرب والمغرب العربيّ، وحتى في جنوب شرقيّ آسيا خاصة اندونيسيا. كان ابو مصعب الزرقاويّ مثالاً على القيادة الاقليميّة للقاعدة، فهو الذي كان يُقرّر كلّ شيء على الساحة العراقيّة.
-وأخيراً وليس آخراً، تظهّر نوع جديد من القيادات الفرديّة التي اقتنعت بفكر «القاعدة» عن بُعد فراحت تُخطّط وتنفّذ دون الرجوع الى القيادة المركزيّة لأخذ الإذن، التمويل والدعم. يندرج الرائد نضال مالك حسن في هذه الفئة، فهو قتل 12 من رفاقه في ثكنة فورت هود، فقط لأنه لم يكن مقتنعاً بالحرب الاميركيّة على افغانستان والعراق.
لذلك يبدو قتل بن لادن أكثر معنويّاً ـ رمزيّاً للاميركيّين انتقاماً لحادثة 11 ايلول، فهو الرمز الذي يُلهم الكثيرين من اتباعه، وهو الذي خطّط لحادثة 11 ايلول، وهو الذي بنى على مقتله اوباما، كلّ حملته الانتخابيّة. اما من الناحية الامنيّة والعملانيّة، فقتله سوف لن يؤثّر كثيراً على تنظيم «القاعدة»، لا بل على العكس، سوف يكون هناك ردّات فعل عُنفيّة، على الاقلّ في المدى القريب.

في مكان العمليّة:
لم يُقتل زعيم تنظيم «القاعدة» في كهف تحت الارض في افغانستان كما كان متوقّعاً. لا بل هو قتل في سريره وهو بين اسرته الكبيرة، وفي بيت ـ فيلاّ كبيرة جدّاً، تُقدّر قيمتها بمليون دولار، تبعد حوالي الـ 60 كلم عن إسلام آباد، وبضع مئات الامتار عن اهمّ معهد عسكريّ في باكستان. قُتل بن لادن في آبوت آباد، نسبة الى اسم الرجل الانكليزي آبوت الذي اسس هذه البلدة وأغرم بهذه المنطقة السياحيّة. قُتل بن لادن بعيداً عن مركز ثقل الخلافة الاسلاميّة التي خطط لإعادة بنائها.
فكيف يمكن تفسير تواجد بن لادن في باكستان، ومنهم من يقول تحت حماية الاستخبارات الباكستانيّة؟
من المعروف جدّاً ان اهمّ مؤسسة في باكستان هي الجيش والاستخبارات. فكما مصر، إسرائيل، سوريّا وتركيّا سابقا، في هذه الدول، للجيش دور مهمّ، وحالته عادة، تعكس حالة الدولة.
وفي هذا الاطار، تعرف باكستان انه لا يمكن الاعتماد دائماً على «العمّ سام»، فهو تركها بعد الحرب الباردة في حالة يُرثى لها. لكنه عاد اليها بعد 11 ايلول، فقط من اجل مصالحه، طالباً المساعدة لضرب تنظيم «القاعدة» في افغانستان ـ وتحت التهديد من قبل وزير الخارجيّة الاميركيّة آنذاك كولن باول كما يُقال.
ويقول البعض، إن باكستان كانت تحمي بن لادن في يومها الاسود، لتبيعه استعداداً ليومها الابيض. بكلام آخر، كانت باكستان تبتزّ اميركا حول هذه المواضيع ـ بن لادن، والملاّ عمر زعيم الطالبان. لكن لماذا؟ 
– لا يُمكن الاتكال على الدعم الاميركيّ حسب التجارب السابقة. 
– تريد باكستان شيكاً ابيض من اميركا حول سيطرتها على افغانستان ـ عمقها الاستراتيجيّ الأكثر حيويّة لها ـ بعد انسحاب هذه الأخيرة من بلاد الباشتون.
– تريد باكستان ان توازن جارتها الضخمة والصاعدة، خاصة بعد التعاون الاميركيّ – الهندي في مجال التكنولوجيا النوويّة. 
– تعرف باكستان انها قد تكون مهمّة مستقبلاً عند تظهّر الصراع الصينيّ ـ الاميركيّ.
– تعي باكستان ان قلق اميركا ينبع من امكانيّة سقوط الدولة، وبالتاليّ سيطرة قوى غير مسؤولة ومعروفة على السلاح النووي. 
– تملك باكستان ورقة الملاذ الآمن لقيادات «القاعدة» لتبادل بها أميركا، خاصة أن استحقاقات كثيرة تنتظر أوباما اليوم ـ الانسحاب، كما الانتخابات الرئاسيّة.
– فهل باعت باكستان زعيم تنظيم «القاعدة»؟ ام ان الاميركيّين ضربوا بعرض الحائط سيادة الحليف المُتردّد ونفّذوا العمليّة عندما اكتملت لديهم كل عناصر النجاح؟ ردّاً على هذه التساؤلات، من المُبكّر اليوم الجزم في اي موضوع، لانه لم يمرّ على العمليّة وقت طويل. لذلك وجب هنا مراقبة ما يصدر عن القيادات في كلّ من باكستان واميركا، كما وجب مراقبة كلّ المؤشرات العسكريّة لكلّ ما يجري على ساحتيّ افغانستان وباكستان. لكن الاكيد اليوم، اننا نشهد أهمّ عمليّة خداع وبروباغندا الهدف منها التغطية، والتعمية على حقيقة ما جرى ـ والتي قد لا نعرف عنها شيئاً في المدى المنظور.

في العمليّة بحدّ ذاتها
البعد الاستخباراتيّ العسكريّ: 
– تمّت العمليّة بعد عقد من الزمن على 11 ايلول. نُفّذت بعد تسعة اشهر من رصد بن لادن، وبدء التحضير لها. نفّذها نفر قليل من القوّات الخاصة، الامر الذي يقودنا الى التساؤل عن مدى فعاليّة حاملات الطائرات، والقاذفات الاستراتيجيّة وغيرها في القرن الـ 21، في ظلّ التبدّلات الجذريّة في البيئة الامنيّة مع تبدّل نوع العدو ونوعيّة المخاطر في عولمة سريعة وقاتلة. استغرقت كلّ العمليّة حوالى 40 دقيقة.
– اعادت العمليّة اهميّة الاستعلام البشري، وذلك حتما بسبب نوعيّة العدو الجديد الذي يعتمد في قتاله، وامنه الخاص على ثلاثة عوامل اساسيّة كانت سبب نجاحه حتى الآن، وهي: خلايا صغيرة، متجانسة دينيّاً وايديولوجيّاً، الامر الذي يعطيها أمناً عملانيّاً مهماّ. 
– فإذا لم تكن مُسلماً لا يمكن لك الانضمام ـ حصريّة الانتماء. 
– وإذا لم تكن مُؤدلجاً، فيمكن فضح امرك بسرعة فتُعدم على انك كافر. 
– لذلك نلاحظ ان نجاح أميركا، او نقطة التحولّ للنجاح، هي عند توفّر استعلام بشري من الدائرة المُصغّرة حول الهدف المقصود. 
– وعلى سبيل المثال، يعتمد حزب الله اللبنانيّ نفس التنظيم، الأمر الذي يُعطيه امناً ودرجة عالية من السريّة العملانيّة. 
– تعطي هذه العمليّة نموذجاً مهمّاً لكيفيّة خوض الغرب، وخاصة اميركا، حربها على المنظّمات الارهابيّة:
ـ لان هذه المنظمات مُسطّحة التنظيم، يتمتّع فيها كلّ فرد بحريّة وليونة عملانيّتين. ولأنه لا يمكن الحسم العسكريّ معها على الطريقة التقليديّة. لذلك يتمّ اختيار القيادات المهمة التي وإن قتلت، فسوف تؤثّر على الاداء ككلّ ـ قيادات استخباراتيّة، عملانيّة، ايديولوجيّة وغيرها. الهدف منها ازالة النخب. تعتمد اسرائيل الاسلوب نفسه مع حماس.
ـ بعد اختيار الهدف، يبدأ جمع المعلومات عنه لتركيب انماط حياته وتحرّكاته. يتمّ جمع المعلومات عبر المصادر البشريّة، كما اجهزة التنصّت والتصوير الجوّي.
ـ عند التنفيذ، تكون الاغارة الطريقة المفضّلة من قبل عدد صغير من قوّات النخبة، التي تعتمد على عامل المفاجأة والسرعة. تعمد هذه القوى في حال نجاحها الى جمع المزيد من المعلومات من مكان تواجد الهدف، استعداداً لضرب اهداف اخرى مترابطة. وإذا تعذّرت الاغارة، وكان الهدف ليس مهمّاً كما بن لادن، بحيث يُراد التأكّد الحسيّ المباشر من النجاح، تُعتمد طريقة القصف الجويّ ـ من طائرة دون طيّار ـ باستعمال القنابل الذكيّة.
ـ الفريد من نوعه في العمليّة الاخيرة ضد بن لادن، هو عمليّة القيادة والسيطرة الاستراتيجيّة المباشرة من قبل الادارة الاميركيّة، على طريقة التنفيذ التكتيّة في آبوت آباد عبر البث المباشر للعمليّة في تفاصيلها الى غرفة الاوضاع في البيت الابيض. وبذلك، قد يمكن القول إن المسافات بين المستويات الاستراتيجيّة، العملانيّة كما التكتيّة، ستزول مع الوقت، لتصبح مُسطّحة. وعليه، اصبح لزاماً على القيادة المدنيّة ان تكون اكثر عسكرة، مقابل ان تكون القيادة العسكريّة اكثر تسيّيساً.
ـ أثتبت العمليّة ثبات واستمرار عقيدة الرئيس السابق جورج بوش، كما مبدأ ما سُمّي بالـ «السيادة المشروطة». يعطي هذا المبدأ الحريّة للولايات المتحدة بضرب اي هدف تعتبره خطراً على امنها القوميّ، داخل ارض دولة اخرى ذات سيادة، وذلك عند تلكّؤ هذه الدولة في تنفيذ المطلوب منها أميركيّاً.

ـ واخيراً وليس آخراً، ولان أميركا تريد الحفاظ على ثقافتها العسكريّة عبر تسمية الحملات العسكريّة والحروب التي تخوضها، سُمّيت هذه العمليّة بـ«جيرونيمو»، القائد الهندي الذي حارب كلاً من الاميركيّين المستعمرين كما المكسيكيّين.
في اهداف واستراتيجيّة «القاعدة»:
عندما اعلن بن لادن فتاويه في التسعينيات، كانت تُصنّف وحسب العلم الجيو ـ سياسيّ، وكانها إعلان حرب بالمعنى التقليديّ على العالم الكافر ومن معه من اتباع. لم يُصدّق الغرب هذا الاعلان حتّى حادثة 11 ايلول، عندها اعلن بوش حربه على الارهاب، مع العلم انه وكما قلنا اعلاه لا يمكن اعلان الحرب على تكتيك ـ الارهاب ليس عدوّاً.
تمثّلت اهداف بن لادن الكبرى عبر حربه على الشكل التالي: 
– طرد الكفّار من ارض الاسلام. 
– الاطاحة بالانظمة الكافرة التي تتعامل مع الغرب الكافر. 
– ومن ثمّ اعادة بناء الخلافة الاسلاميّة.

اين عالم اليوم من هذه الاهداف؟
يعيش اليوم العالم العربيّ اهم مرحلة مفصليّة في تاريخه، قد تتماثل مع مرحلة ما بعد سقوط الامبراطوريّة العثمانيّة، وقد يمكن القول ان حالة اليوم هي اخطر. فالثورات الشبابيّة، وانا اقول انتفاضات، لا تملك حتى اي خريطة طريق لمشروعها، حتى قد يُمكن التساؤل اذا ما كان هناك حتّى خريطة. فهي ليست جاهزة في كلّ المعايير، في وقت مطلوب فيه أعلى درجة من الجهوزيّة. على كلّ، كيف هي حال العالم العربي في ظلّ الأهداف الاستراتيجيّة لبن لادن التي وضعها في التسعينيات؟ 
– لا يزال الغرب الكافر في العالم العربي ـ الاسلاميّ.
-حتى انه اصبح مطلب بعض هذه الدول ـ ما يجري في ليبيا خير دليل على ذلك. 
– تمّت الاطاحة ببعض الانظمة المتعاملة مع اميركا، لكن ليس من قبل الاسلاميّين، بل من قبل قوى شبابيّة، مؤمنة بالحريّة والديموقراطيّة، لكن من دون نسيان رسالة الاسلام الحقيقيّة. 
– واخيرا وليس آخرا، تبدو كلّ الانظمة البديلة التي حلّت مكان القديمة نتيجة انتفاضات الشباب، وكأنها تعتمد على دعم الغرب الكافر لها كي تقوم من كبوتها.

في تأثير وأبعاد هذه العمليّة في المستقبل القريب:
قد يمكن القول إنه سيكون لهذه العمليّة تأثير في ثلاثة اتجاهات اساسيّة هي: 
– في الاتجاه الاميركيّ:
ـ سوف تساعد اوباما لانه وعد في حملته الانتخابيّة ووفى. قد تكون الطريق اسهل لولاية ثانيّة، اللهمّ إلا اذ اخذ الاقتصاد الحيّز الاكبر. هكذا كانت حال بوش الاب بعد حرب الخليج، فقد خسر الانتخابات بسبب الاقتصاد.
ـ سوف تُسكت هذه العمليّة الجمهوريّين حول اتهام الديموقراطيّين بأنهم ضعفاء في ما خصّ شؤون الامن القوميّ الاميركيّ.
ـ سوف يعطي هذا النجاح حريّة اكثر للرئيس في السياسة الخارجيّة.
ـ لكن هذه العمليّة وبسبب تواجد بن لادن في باكستان، او بالاحرى احتضان باكستان له، سوف تفتح باب النقاش على نوعيّة العلاقة مع الحليف الذي يغشّ، ومدى استعداد اميركا لمساعدة هذا الحليف ـ هذا اذا استمرّ حليفاً.
ـ وأخيراً وليس آخراً، سوف تعطي هذه العمليّة مزيد من المصداقيّة للعسكر الاميركيّ، وسوف تخلق رادعاً اقوى لمن تسوّل له نفسه الاعتداء على المصالح الاميركيّة. فهل سيكون لهذه العمليّة مفعول رجعيّ؟ 
– في الاتجاه الافغانيّ:
ـ قد تشكّل هذه العمليّة نقطة التحوّل في التعهّد الاميركي لبلد الباشتون. فإذا وفى اوباما بوعده، فليس من الضروري صرف المزيد من رأسماله في بلد لا يمكن ان يُحكم كما يُقال.
ـ سوف يؤثّر الأمر أيضاً على سلوكيّات الطالبان – المّلا عمر. فكيف سيتصرّف، وقد حان توقيت بدء الهجومات الربيعيّة التقليديّة على قوات التحالف؟ وهل سيسعى للتوافق؟ وهل هو تحت الحماية الباكستانيّة، وهو الذي عولج داخل باكستان مرّة بحماية الاستخبارات الباكستانيّة؟ ماذا سيكون مصير الرئيس الافغاني حميد قرضاي؟ 
– في الاتجاه الباكستاني:
ـ كل شيء يتعلّق بما سيرشح من اسرار حول دور باكستان في عملية بن لادن. فهل كانت مهمّشة فعلاً؟ وماذا عن السيادة؟ وكيف سيتصرّف العسكر؟ وهل هناك من العسكر، والاستخبارات من هو مع، ومن هو ضدّ العمليّة؟ وهل هناك انقسام؟ وكيف سيؤثّر كلّ هذا على الجيش الذي يقوم عليه كلّ مستقبل بلاد الطهّار؟
ـ إذا كانت باكستان قد سلّمت بن لادن للأميركيّين، فما هو الثمن الذي سأقبضه؟ واين سيكون؟ إذ من المنطقي ان يكون في افغانستان. فهل ستدبّ الفوضى في تلك المنطقة؟
ـ كيف ستتعامل الدولة ـ وهي مُحرجة اليوم في كلّ الاحوال ـ مع الرأي العام الباكستاني المناوئ في اغلبه للأميركيين بسبب انتهاكاتهم المستمرّة للسيادة الباكستانيّة؟
ـ وماذا ستفعل باكستان في حال تكرّرت العمليّة الأميركيّة مع زعيم آخر؟
ـ كيف ستكون عليه العلاقة بين القيادة السياسيّة الضعيفة، والعسكر في المرحلة المقبلة؟
في الختام، قد يمكن طرح السؤال التاليّ:
لماذا انتظر الرئيس باراك اوباما تسعة اشهر لتنفيذ العمليّة، خاصة اذا كانت المعلومات أكيدة ودقيقة؟ فهل يحتاج قتل شخص واحد ـ اعزل كما تبيّن ـ كلّ هذا الوقت من قبل اعظم دولة في تاريخ البشريّة؟ وهل تزامنت العمليّة مع بدء اعلان الحملة الرئاسيّة. ام لأنه يعاني من مشاكل داخليّة، من عجز في الميزانيّة، بطالة، ارتفاع سعر المحروقات، حتى التشكيك في كونه أميركيّاً وامور غيرها؟ وهل ارادها في ظلّ فوضى عارمة في العالم العربيّ؟ ام انه فعلاً كان خائفاً من الفشل كما حصل في تورا بورا العام 2002، فأراد التحضير بشكل لا يقبل الفشل؟

كلها اسئلة في عهدة المستقبل الذي قد يفشي ببعض من أسراره. فهل يمكن توقّع «ويكيليكس» جديد في هذا الاتجاه؟

السابق
تعميم من الداخلية لاعتماد المخاتير استمارة افادة سكن موحدة
التالي
الإستخبارات الإسرائيلية: تصفية بن لادن تشرعن إغتيال الإرهابيين