يـا أبـي.. نحـن لا شــيء

 يا أبي. أعرف أني قد أبدو الآن مثل الكثيرين من أبناء البلد. كل ما قد يستوحى من هذه السطور تكراري على القراء ما يسمعونه مراراً وفي أماكن مختلفة. إني على شاكلة أولئك الذين يتذمرون من كل شيء. قد أحسب على صنف من يجيدون النقّ.
لا أجيد النقّ. لكني مدفوع دائماً إلى نقل الصورة مهما كانت. كأنها تنطق بلسان صاحبها. فرحاً أو كرباً، حباً أو كراهية. كما أن النقّ في أوقات معينة واجب. ذلك أن لا حلّ سحريّاً. شاءت الظروف أن أنقل إلى القارئ في مرة سابقة بعضاً من يومياتي، وحصراً تلك المتصلة بحقنا جميعاً في طبابة مجانية. وشاءت هذه الظروف مرة أخرى أن أتكلم عنك، واستطراداً عمن يشبهونك، وللإشارة فإن جمعهم يسير.

يا أبي. أنت مواطن من الدرجة الثالثة. مع تحفظي الشديد على «مواطن». أفضّلها هكذا دائماً، بين مزدوجين. إذ إنها تحمل معاني عديدة في بلد متعدد.
عندما اتصلت بي اتصالاً غير مكتمل أو ما يعرف بـ«Missed call»، لأنك غالباً لا تملك في جوالك سوى دولار واحد، عاودت الاتصال بك وأخبرتني بصوت خائر أن نفسك يضيق بشدة، قلت في نفسي أي مصيبة هذه التي حلّت بنا. فأنت غير مسجل في الضمان الاجتماعي، وهذا يستدعي بطبيعة الحال التفكير في أسماء قادرة على إقراضنا المال في حال خضوعك للعلاج في المستشفى.
كانت جولة ماراتونية تلك التي قمت بها ما بين إسعافك بشكل أوليّ ودخولك المستشفى وبين إخراجك منه.

فقد طلبت إلى عمي اللحاق بك إلى المستشفى ودفع رسم الدخول، وبعدها «الله بدبّر».
يا أبي، كان إخراجك من المستشفى وأنت في حالة صحية سيئة جداً أمراً حتمياً. هل تعرف لماذا؟ لأن هذا المستشفى المحسوب على الطائفة التي تنتمي إليها أنت، يستقبل ما يفوق طاقته من المرضى وجلهّم من المعدمين مادياً. قالوا لي ببساطة: «لم تعد توجد أسرّة على حساب وزارة الصحة، يتوجب عليكم إخراجه إلى مستشفى آخر». ولأن وضعك الصحي كان يستلزم بقاءك تحت المراقبة الطبية هل تعرف ماذا فعلت؟ اتصلت بمستشفيين آخرين محسوبين على طائفتك، لا لأن الأمر يروقني، بل لإمكان التوسط لديهم لاحقاً لتخفيض كلفة الاستشفاء. لكن محاولتي باءت بالفشل. فالأول كان مكتظاً على قولهم. أما الثاني فإنه قد قطع تعامله مع وزارة الصحة، وهو لو تذكرت وأعرف أنك تتذكر، ذلك المستشفى الذي بقيت مطروحاً عند بابه لحظة تعرضك لنوبة قلبية، لا تلجه لأنك لم تملك رسم الدخول.
أما مستشفى رفيق الحريري الحكومي، فقد زعم موظف مكتب الدخول عدم امتلاكهم لمعدات العناية بأمراض الجهاز التنفسي. تصوّر أن مستشفى جامعياً، تنتزع كلفة بنائه وتجهيزه ضرائب من جيوبنا جميعاً، لا يملك تلك المعدات. يا للكذب!
يا أبي، عليك أن تشكر كل من ساهم في إنقاذك. أما أنا فتأكد أني لم أفعل تجاهك الكثير. يتوجب عليك بداية الإعراب عن الامتنان لخالي (شقيق زوجتك السابقة)، الذي أجرى اتصالاً هاتفياً برجل من مستوى رفيع (أرفع من نائب)، والذي أحب منذ الآن أن أطلق عليه لقب «الرجل السرّي»، إذ لم أعرف سوى اسمه الأول، أما مهنته ووظيفته، فلم أصل إليهما. وهو الذي اتصل بالمستشفى طالباً إلى مديره أن يبقيك في مكانك ريثما يفرغ سرير من أسرّة وزارة الصحة فينقلونك إليه. ويتوجب عليك شكر والدتك وأخوتك الذين سددوا متعاونين دفعة على الحساب للمستشفى. أضف إليهم ابن خالة أمي الذي توسط لك لدى وزير الصحة كي يوقع شخصياً على طلب تغطية استشفائك. لان لكل مستشفى سقفاً مالياً محدداً لا تستطيع تخطيه وهو ما يعني أن أشخاصاً كثيرين قد يموتون فوق هذا السقف إلا من لديه واسطة ليحظى بتوقيع الوزير.

عليك أن تشكر من أقرضني مبلغاً يتخطى نصف راتبي (البسيط) كي ادفع المتبقي من كلفة استشفائك وكذلك ثمن العقاقير اللازمة لك.
يا أبي، لقد أحزنني كثيراً مشهد خطفك ليدي وتقبيلها. ليس الأمر أنك كنت تفعلها معي لأول مرة بل لدفعك إياي إلى الشعور بضعفك، والإحساس بقوتي. أكره أن يشعرني أحد بضعفه. فأنا لست قوياً إلى الحدّ الذي أشعرتني به. كما أني لست صانع معجزات.

هل تعلم أني لحظة أصادف شحاذة تتوسل ما تيسر من مال أتحاشى أن تلتقي عيوننا؟ أنخفض بجسدي وأضع المال في كفها متعمداً أن لا يراني احد ثم انسحب بسرعة. لا أريدها أن تتأملني. أحب أن أعطي، بحدود قدرتي، من دون أن أسمع صدى.
يا أبي، قاموا في المستشفى بحجز بطاقة هويتك لحين انتهائي من تخليص معاملة وزارة الصحة. لا يلامون. في النهاية هم أصحاب حق. لكني شعرت أني بإمكاني أن أقول لهم: «احتفظوا بالهوية، احرقوها إن شئتم!».
يا أبي، أرجوك. طلب أخير. عندما نلتقي بعد فترة لا تسلني عن الحكومة، عن الرابع عشر أو الثامن من آذار، عن السنة والشيعة وغيرهما.
يا أبي، نحن لا شيء!
 

السابق
مسيرة للعمال في كفررمان
التالي
بنك للمعلومات للمتبرعين بالدم واخماد الحرائق والإسعافات الأولية