عن الخلفيّة السياسيّة والاجتـماعيّة للتعديات

 لا يُمكن حصر أسباب الهجمة الشرسة في التعدي على الأملاك العامّة، بردّ فعل على سماح قوى الأمن الداخلي بالمخالفة في يارين ــ البيساريّة بطلب من النائبة بهيّة الحريري، بل هناك أسباب سياسيّة ونتائج اجتماعيّة واقتصاديّة قد تكون كارثيّة

في أيّام قليلة، ارتفعت مئات المباني في الأملاك العامّة. بيانات تدين هذه الجهة، وأخرى تدين جهة أخرى. لكن بغضّ النظر عمّن بدأ عمليّة التعدي، يتجاوز ما حصل في الجنوب والأوزاعي بناء منزل؛ فعمليّة التعدي على الأملاك العامّة ليست أمراً جديداً، وهي بدأت مع الاستقلال، وكانت وتيرتها ترتفع وتنقص بحسب قوّة الدولة المركزيّة وضعفها. عاش المعتدون فترتهم الذهبيّة خلال الحرب الأهليّة، ولم تشذّ أي منطقة لبنانيّة عن هذه القاعدة. ومن يراجع ملف الأملاك البحرية يمكنه أن يعرف أن قطعة أرض واحدة سلبت هناك تساوي كل ما خسرته الدولة في منازل الفقراء.
في الجنوب، يقول معظم الذين سارعوا إلى عمليات البناء أخيراً، إن حركة أمل وفرت لهم الغطاء، وإن مؤسسات تدور في فلك «أمل»، مبنيّة أصلاً على مشاعات الدولة. بعضها شُرِّع بعد البناء، وبعضها لم يحصل على هذا التشريع حتى اللحظة. لا يحمل هؤلاء وثيقة تثبت ما يقولونه، لكن في الجنوب يعرف الجميع من يقف خلف هذه أو تلك من المجموعات، ولا سيما أن في الدوائر القريبة من «أمل» مَن يعطي خلفية سياسيّة واجتماعيّة لما حصل، وخصوصاً أن ما جرى تركز في قضاءي صور والزهراني، حيث النفوذ الأبرز للحركة، بينما لم تظهر هذه الحالات في أقضية النبطيّة، بنت جبيل، مرجعيون وحاصبيا.
ويرى المعنيون بالمتابعة، أن في قيادة «أمل» من دعا إلى غض الطرف وإلى عدم الوقوف بوجه مطالب الناس هؤلاء، وذلك للتعويض عن نقص برز في السنوات الأخيرة على صعيد الحالة العصبية التي تمثلها الحركة، وأن البعض استغلوا ما حصل أخيراً في ساحل العاج، وارتفاع صرخة المغتربين اللبنانيين هناك، بعدما شعروا بأن دولتهم تخلّت عنهم. وقد حمّل هؤلاء وزارة الخارجيّة والمغتربين مسؤوليّة كبيرة، ولمّحوا إلى من يوفر الغطاء السياسي لوزير الخارجية.
ورغم أن الرئيس نبيه بري أبلغ جميع الجهات في الدولة رفضه الاعتداء على الأملاك العامة، ورفعه الغطاء عن أي مخالف، ولو كان عضواً في حركة أمل، إلا أن سلوك مقربين منه يوحي أن هناك من يريد بناء علاقة من جديد مع قواعد شعبية تواجه أزمة معيشية كبيرة. وقد وصل الأمر إلى أن بنى مسؤول بارز في الحركة طبقة إضافية فوق منزله المطلّ على آثارات صور، ما اضطر بري إلى التدخل شخصياً، وطلب إليه إزالة المخالفة. علماً بأن المسؤولين في الحركة يحمّلون المسؤوليّة الكاملة عن انتشار المخالفات للنائبة الحريري والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، وأنهما أعطيا الضوء الأخضر لأبناء بلدة يارين المقيمين في البيساريّة بالشروع في البناء المخالف، وذلك مقابل مشاركتهم في مهرجان 13 آذار. لكن النائبة الحريري قالت أمام فاعليات صيداوية إنها لم تدعُ أحد إلى ارتكاب مخالفة، وإنها علمت بما يجري، لكنها غير مسؤولة عما يجري هناك. ويُضيف مسؤولو «أمل» أن قوى الأمن الداخلي تقاعست أيضاً في قمع المخالفات في بدايتها، ما أدّى إلى هذا الانتشار. ويعتقد هؤلاء أن في المؤسسة الأمنيّة من يعتقد أن انتشار المخالفات يُسهم في الضغط سياسياً على حركة أمل وحزب الله، لذلك تركوا الأمور تفلت.

أزمة البنى التحتيّة

حصل التعدي وأصبح أمراً واقعاً. نظرياً، يحق للدولة اللبنانيّة أن تُزيل جميع هذه التعديّات عبر أجهزتها الأمنيّة. لكن واقع الحال لا يشير إلى ذلك. عديد قوى الأمن قليل جداً جنوباً. هيبة المؤسسة الأمنيّة في الحضيض. المواطنون جاهزون لمواجهتها، ولا أحد يُمكنه تحمّل سقوط دماءٍ جديدة. مافيا البناء جنوباً لا تزال فاعلة، ومواد البناء تُنقَل في عتمة الليالي، ويعمل العمّال حتى ساعات الفجر. وفي المحصّلة، ارتفعت نحو ستة آلاف وحدة سكنيّة، بسحر ساحرٍ. وبحسب أحد المتعهّدين، إن حساباً بسيطاً ينطلق من أن كلفة بناء سقف مع أعمدته لمنزل بمساحة 120 متراً مربّعاً تبلغ بمتوسّطها عشرة آلاف دولار أميركي. هذا يعني أن نحو ستين مليون دولار أميركي انتقلت من قطاعات اقتصاديّة إلى قطاع البناء. علماً بأن مصارف عاملة في الجنوب تحدثت عن ضغط كبير خلال الأسبوعين الماضيين من مواطنين يرهنون عقارات مقابل مبالغ تراوح بين سبعة وعشرة آلاف دولار أميركي.
لكن المشكلة لا تتوقّف هنا. من أين ستتزوّد هذه المنازل بالكهرباء والمياه والصرف الصحي؟ ومن المعروف أنه لا يُمكن هذه المنازل أن تشترك بخدمات الماء والكهرباء على نحو قانوني؛ لأن وضعها غير قانوني. وبذلك، يرتفع عدد المباني المتعديّة على شبكات المياه والكهرباء، التي تُعاني بوضعها الحالي من تعديات كثيرة، ما يؤدي عملياً إلى أعطال في الكهرباء والمياه تصيب أصحاب المنازل الشرعية، ما يعني دخول قرى قضاءي صور والزهراني في مشاكل إضافيّة.

المعتدون و«الهيبة»

يتندّر بعض الجنوبيّين على عبارة «المحرومين»؛ ففي بداية عمليّات التعدي على الأملاك، قيل إن من يقوم بهذا التعدي هم أُناس محتاجون لا يملكون أراضي، لذلك هم بحاجة إليها. وانتشرت نظريّات عن ضرورة توزيع المشاعات على المحتاجين. وإذا كان صحيحاً أن العديد من الشبّان لم يستطيعوا بناء منازل لعدم قدرتهم على تسوية المخالفات في عقاراتهم للحصول على رخص بناء من التنظيم المدني بعد منع البلديّات من إعطاء الرخص لمنازل دون 120 متراً مربّعاً، فإن السؤال هو عن كيفية تقاسم الأراضي بين الفاعليات المحلية، وخصوصاً تلك التي تربطها صلة بالأحزاب النافذة. ثم يُعلن بيع دونم الأراضي في المشاع في بعض البلدات بستة آلاف دولار. وفي بلدةٍ أخرى، تُسيَّج الحصص في المشاعات لحساب بعض المحظيين، من دون أن يكون هؤلاء بحاجة إلى أراضٍ. وبالتالي، غير صحيح أبداً أنَّ الذين يعتدون على الأملاك العامّة هم من الفقراء والمحرومين، بل إن جلّهم من المحظيين الذي بنوا سطوتهم منذ سنوات الحرب.
تداعيات الصدام بين الأهالي والقوى الأمنيّة في مناطق جنوبيّة عدّة، وسقوط ضحايا في منطقة المساكن الشعبيّة قرب صور، أثّرا سلباً على علاقة المواطنين بالقوى الأمنيّة. فحتى أشهر قليلة، كان رجل الأمن يحظى بحدٍّ معقول من الاحترام في البلدات الجنوبيّة، ولم تكن سيّارات قوى الأمن تُرشق بالحجارة، بغض النظر عن الفساد في مفارز قوى الأمن جنوباً. أمّا اليوم، فلم تعد هذه القوى الأمنيّة قادرة على حلّ خلاف بين شبّان، من دون الحصول على ضوءٍ أخضر من القوى السياسيّة الفاعلة.
تختفي «هيبة» الدولة ومؤسساتها يوماً بعد آخر. والخطورة هي في المافيات والشّلل التي بدأت تظهر هنا وهناك لحماية أمن هذا الحي أو تلك البلدة، حيث باتت تظهر الأسلحة الفرديّة للعيان، من دون حسيب أو رقيب. وكمثال فقط، كُسّرت سيّارة في إحدى قرى قضاء صور من نحو أسبوعيْن، وأُحرقت سيّارة بعد يومين على الحادثة، ولم تظهر أي آليّة لقوى الأمن للتحقيق في الموضوع. لا، بل إن طرفي المشكلة لا يعتقدان أن الحلّ يُمكن أن يكون عبر الدولة وأجهزتها، بل إن كلّ طرف قرّر أن يأخذ حقّه بيده.

 

السابق
لبنان يتصحَّر وشعبه أسير الجوع والظلام
التالي
مكبّ زوطر الغربية يستقبل نفايات الاتحاد اليوم