الحاجة والاستغلال.. سبب تضاؤل أراضي المسيحيين جنوباً

يبدو أن تجارة العقارات، التي انتشرت بشكل لافت في القرى والبلدات الجنوبية، سيما في بنت جبيل ومرجعيون، بدأت تأخذ بعداً طائفياً، وان كان ليس مقصوداً وممنهجاً، حتى ضاق ذرع بعض المسيحيين من هذه الظاهرة، التي بدأت تهدد وجودهم وبقائهم في المنطقة، خاصة في القرى والبلدات التي يعيش فيها المسيحيين والمسلمين معاً منذ مئات السنين. منذ أكثر من عشر سنوات، بدأ بعض تجار العقارات يعمدون الى شراء ما تيسّر لهم من الأراضي لاعادة بيعها بربح، وكان اللاّفت هو البحث عن الأراضي التي يبيعها أصحابها بأسعار متدنية لأسباب مختلفة، فكانت الأراضي التي تعود ملكيتها الى المسيحيين في قرى وبلدات التعايش الاسلامي المسيحي هي الأكثر اغراءً لهؤلاء التجار، الذين عمدوا الى شراء ما تيسّر لهم منها، نظراً لأن معظم المسيحيين هم من المهاجرين أو النازحين والذين يفضلون البيع لاستثمار الأموال في ما يحقق لهم مصالح مختلفة. وهذا ما حصل في بلدات مثل برعشيت وصفد البطيخ ويارون ودردغيا.. لكن يبدو أن التعايش الطائفي في بلدة صفد البطيخ، بات مهدداً، فالعديد من المسيحيين الذين يعيشون في البلدة منذ أكثر من مئة عام، بحسب ابن البلدة جورج حداد، ويزيد عددهم على 800 نسمة لا يقيم منهم أكثر من 100 شخص. والأخطر من ذلك ما صرّح به أحد شبان البلدة المسيحيين، الذي تحفّظ على ذكر أسمه، وأكده مصدر بلدي، أن " التعايش بين المسلمين والمسيحيين غير موجود الأن، رغم أن علاقتنا مع المسلمين الشيعة كانت أكثر من ممتازة"، ويعتبر أن هذه " المشكلة استجدّت منذ نحو خمس سنوات، وبدأت تتفاقم، وهي بسبب تصرفات بعض افراد أحد الأحزاب هنا الذين يفضلون طردنا، وهذا ما نلمسه من خلال شراء العقارات الخاصة بالمسيحيين ولو بمبالغ مالية مرتفعة، ومحاولتهم منعنا من رفع أصوات الراديو أو شرب الكحول أو بيعها"، أما الذي قصم ظهر البعير فيقول " ما عمدت اليه جمعية تابعة للحزب المذكور الى الاستيلاء على حصة المسيحيين من أرض مشاع والبدء في بناء مسجد في الحيّ المسيحي في البلدة".

قصة الأرض المذكورة التي يؤكدها أكثر من مصدر في البلدة، تعود الى أكثر من 70 سنة، عندما أراد بعض الشيعة البناء على الأرض المشاع التي لا تزيد مساحتها على 600 متر مربع، لكن الاعتراض وتدخل وجهاء البلدة من الطائفتين، أدى الى اتفاق يقضي بتقسيم الأرض المذكورة الى قسمين، قسم يتصرف به الشيعة للمنفعة العامة وقسم آخر يبقى في تصرف المسيحيين. وما حصل مؤخراً هو نقض لهذا الاتفاق القديم، ما اعتبره العديد من مسيحيي البلدة محاولة لطردهم من البلدة، كون المسجد الذي سيتم بناؤه على أرضهم هو في حيّهم السكني وبطريقة الغصب. ويدّعي الشاب عينه أيضاً أن " أفراد الجهة الحزبية نفسها وضعوا يدهم على أرض تدعى البيادر، وهي ملك معروف قديماً من حصة المسيحيين وتزيد على 2000 متر مربع، ورغم اعتراضنا وحصولنا على أحكام قضائية تثبت حقنا بها الاّ أنهم أصروا على السيطرة عليها، والسؤال هو لماذا يريدون السيطرة على أراضي المسيحييين هنا والتي تدنت من 60% الى أقل من 20%، وأقول للمعنيين نحن بتنا بحاجة الى دعم سياسي لأن العديد هنا لا يحبوننا وليس جميعهم".

هذا الوضع المتأزّم لا وجود له في قرى وبلدات أخرى مثل برعشيت، التي يجمع فيها المسيحيين هناك على أن هجرتهم الكثيفة وبيعهم للأراضي هو بسبب الحاجة وليس بسبب مشاكل طائفية، لذلك بحسب يعقوب حداد فان " بعض المسيحيين من الذين يملكون المال اشتروا أراض جديدة لهم في برعشيت". لكن ما يلفت الانتباه هو اتساع الأحياء الشيعية المبنية بالحجر الصخري والقرميد الأحمر، ما يدل على غنى واسع لأبناء الطائفة الشيعية في منطقة بنت جبيل الذين هاجر أغلبهم الى أميركا وأستراليا، بينما البيوت المسيحية هي بيوت قديمة ومستحدثة بطريقة تدل على تواضع الحالة المادية لأصحابها. يقول مختار يارون السابق علي غشام (82 سنة) " المسيحيون يعيشون هنا منذ القدم وهم يشكلون نحو ثلث سكان البلدة التي يبلغ عدد سكانها نحو 5000 نسمة، وسبب غنى المسلمين الشيعة هو بلاد المهجر، بينما المسيحيون نزحوا بأغلبهم الى بيروت، والذين هاجروا منهم لم يعودوا الى بلدتهم. لذلك تجد أكثر المقيمين الأن هم من الطائفة الشيعية، فيوجد نحو 2000 مقيم شيعي مقابل نحو 200 مقيم مسيحي والكثير منهم باع أرضه بسبب الحاجة ".

في بلدة برعشيت ورغم مشهد الكنيسة الكبيرة التي تجاور المسجد القديم، فانه يصعب البحث عن أهالي البلدة من المسيحيين الكاثوليك. فالبلدة أصبحت كبيرة جداً، والبناء الجديد يطال كل مكان. أبو جورج يونس (85 عاما) يقول " نحن هنا منذ أكثر من مئتي عام نعيش دون أي حسابات طائفية، ولم نشعر يوماً أننا أقلية بين أكثرية شيعية"، ويبيّن " أنا علمت أولادي التسعة من ثمار أرضي الواسعة هنا، لكن الأن 100 دونم من الأراضي التي أملكها لا تكفيني لأعيش من ثمارها وحدي ولا تؤمن حتى رغيف الخبز، ورجال السياسة لا يكترثون لحالنا. فقد كان عددنا نحن المسيحيون المقيمون في هذه البلدة أكثر من 700 نسمة، هاجر أغلبهم الى بلاد الله الواسعة، ليس هرباً من الحرب، بل هرباً من الجوع وقلة العمل، فقد بدأت الهجرة بقسوة منذ العام 1975، بعد أن كانت الأراضي الزراعية مورد عيشنا الأساسي ولم يكن يوما للدين أي اعتبار في البلدة فالجميع أخوة ، لكن عدد المسيحيين الأن لا يتجاوز ال70 نسمة". وعن سبب تدني عدد المسيحيين في البلدة يقول أبو جورج " هم يتناسلون أكثر منا، ويهاجرون أيضاً لكنهم يحبون أرضهم كثيراً فيعودون اليها ليبنوا بيوتهم، بينما المسيحيين ان هاجروا الى الخارج فلا يعودون، فلي الكثير من الأقارب تركوا البلدة الى المهجر دون أن يفكروا بالعودة على الاطلاق، ومن بينهم أخوين لي توفيا في أفريقيا ودفنا هناك، بينما الشيعة يعودون ولو كانوا أمواتا". أغلب المنازل المسيحية في برعشيت قديمة جداً، فيوجد نحو 40 منزلاً أغلبهم غير صالح للسكن. 15 منزل مأهولين والباقي مهجور، هدم 25 منهم في حرب تموز الأخيرة ويعمل الأن على اعادة بنائهم من جديد. يحاول أغلب النازحين المسيحيين زيارة البلدة في المناسبات، خاصة في الأحزان. وفي بلدتي تبنين وصفد البطيخ الوضع مشابه، مع اختلاف واضح في تبنين، التي ما زال عدد المسيحيين كبير فيها، وهناك اهتمام واسع من المجلس البلدي بالحارة المسيحية التي لا تختلف كثيراً عن الحارات الشيعية، وتعلوا الكنيسة الجميلة تلة البلدة وتجاور معسكر قوات اليونيفل القديم الجديد الذي أمّن العمل للعديد من أبناء تبنين المسيحيين والمسلمين. بلدة صفد التي تهدمت كنيستها وقت الحرب وأعادت قطر اعمارها شهدت بيعاً لافتاً للأراضي المملوكة للمسيحيين " فالحاجة الى المال هي سبب ذلك". وفي جميع الأحوال يغلب الفقر على المسيحيين المقيمين في قرى بنت جبيل، فأغلب البيوت قديمة جداً، والكثير منها مهجور ويحتاج الى ترميم، ويعتمد أغلب هؤلاء على الوظائف العامة والعمل مع قوات اليونيفل، اضافة الى الزراعة، وخاصة التبغ، وبعض المهن الصغيرة الأخرى.

السابق
25 نشاطاً ثقافياً لمكتبة بنت جبيل في نيسان
التالي
بين تهديد وتهديد وجودي