أرخص عميل في الجمهورية.. جنّدته متخصصة في الحب الالكتروني

لا تختلف قصة عمالة ع. ب. للاسرائيليين عن آلاف قصص العمالة التي نقرأ عنها أو نشاهدها في الأفلام المصرية. هي سارة نفسها، ذلك الطعم المحبب، على ما يبدو، عند الاستخبارات الاسرائيلية. اسم يتكرر مراراً وتكراراً ليدل على عميلة نشيطة في «الموساد». عميلة متخصصة في الحب واستمالة الرجال، لم تجد صعوبة في رمي ع. م. في شباكها، الذي لم يكن الأول ولا الأخير لا سيما أنه هو من سعى إليها.. وربما إلى العمالة.

في أيار 2006 عمد ع. م. إلى الدخول إلى أحد المواقع الاجتماعية الأجنبية، فكان اللقاء الافتراضي الأول بسارة، التي قالت له إنها مقيمة في بيروت. سرعان ما نشأت بينهما صداقة قوية، أدت إلى تواصل يومي ولفترات طويلة. أخبرها بتفاصيل حياته وبأنه حائز على دبلوم في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ويعمل مدرساً للرياضيات في مدرسة العباسية الرسمية في قضاء صور. قال لها أيضاً إنه يقوم بنشر تحليلات عن الوضع السياسي في لبنان في عدد من المواقع الالكترونية. لم ينس إعلامها بوضعه الاقتصادي المتردي، في ظل المبلغ الزهيد الذي يتقاضاه من جراء تعاقده مع وزارة التربية.

بدا كأنه يرجوها مساعدته. وعندما أعلمته أنها إسرائيلية ومقيمة في إسرائيل، رداً على سؤاله عن جنسيتها، بعدما لاحظ أن لغتها العربية ليست سليمة، لم يتأثر أو ينزعج. سؤاله هذا لم يكن إلا من باب الود، وجوابها لم يفسد للود قضية، فاستمرت العلاقة على حالها، إلى أن خطف «حزب الله» الجنديين الاسرائيليين في عملية عيتا الشعب الشهيرة في الثاني عشر من تموز. توترت سارة وراحت تشتم الحزب في رسائلها الالكترونية لصديقها. عندها قال لها مازحاً «تعيشوا وتاكلوا غيرها»، فكانت هذه هي المرة الأخيرة التي يتواصل معها، ليس لأسباب وطنية أو لوعي مستجد، بل لأن الحرب أدت إلى انقطاع خطوط الانترنت.

بعد الحرب بأسبوع عادت المياه إلى مجاريها وعاد التواصل إلى سابق عهده. نقاشات اجتماعية ودينية والكثير من الود والحب الالكتروني، الذي تحول بعد أسبوع إلى منحى مختلف. حينها كشفت سارة لصديقها وظيفتها في «الموساد». طلبت رقم هاتفه وأعلمته أن شخصاً يدعى فرنسيس سيتصل به بعد أسبوع لمساعدته.

اتصل فرنسيس. اطمأن عنه وعن صحته. أخبره أنه على اطلاع بكل أوضاعه، واعداً بمعاودة الاتصال بعد ثلاثة أيام، من دون أن يطلب أو يعرض عليه شيئاً.
في الموعد المحدد وأثناء وجود العميل في بلدة العباسية اتصل به مشغله طالباً منه القيام بتحليل سياسي للأوضاع في لبنان والمنطقة، على أن يتضمن نظرة الطوائف المكونة للمجتمع اللبناني إلى بعضها البعض وعلاقتها مع «حزب الله»، على أن يتصل به بعدها مبدياً الملاحظات على ما يكتبه. في الاتصال اللاحق طلب فرنسيس من ع. ب. التوسع بالتحليل. بعد شهر ونصف الشهر من التحليل والملاحظات، صار لا بد من الانتقال إلى ما هو مفيد أكثر. أعلن فرنسيس لـ ع. ب. أنه حان الوقت ليبدأ بالاستفادة، مؤكداً انه سيعلمه في الوقت المناسب بباقي التفاصيل.

بعد أسبوع طلب منه أن يقوم بتحديد مراكز «حزب الله» ومكاتب نوابه في مدينة صور، من خلال برنامج «جوجل إرث»، على أن يرفع إشارة حمراء عند كل هدف، ويرسلها عبر البريد الالكتروني.
وهكذا كان: الدفعة الأولى من الأهداف كانت: مكتب النائب عبد الله قصير، مكتب الوزير محمد فنيش، مكتب الخدمات الاجتماعية في مبنى اذاعة «صوت الفرح»، بناية «مؤسسة الشهيد»…
في هذه المرحلة تميز ع. ب. بالجد إذ كان همه كسب ثقة مشغله. عمل من دون كلل او ملل، حتى أنه لم يطلب المال، معتبراً أن الاموال لا بد ان تأتي لاحقاً.

بالفعل، بعد ذلك بأيام، أعلمه فرنسيس أنه سيرسل له «الغرض»، من دون ان يحدد ماهيته. وعلى مراحل بدأ يعطيه التفاصيل: الغرض أصبح موجوداً وعليك التوجه إلى بلدة النميرية عبر طريق زفتا. لدى وصوله أعاد الاتصال به، طالباً منه التوجه إلى مفرق النميرية قرب معمل البلاط. اتصل مجدداً وطلب من ع. ب. النظر إلى مجموعة من الاشخاص المتوقفين أمام الطريق العام، ثم دعاه للتوجه رأساً إلى الشجرة الأخيرة من صف الأشجار الموجود في تلك الناحية. وكما أعلمه مشغله، وجد ع. ب. تحت الشجرة علبة بلاستيكية. فتحها فوجد في داخلها حافظتي ذاكرة وألفي دولار، إضافة إلى ورقة تعليمات خاصة باستعمال الحافظتين.

لدى عودته إلى صور، أعاد فرنسيس الاتصال بعميله ع. ب. ليشرح له كيفية استعمال الحافظتين اللتين تحتويان على صور جوية لمنطقة صور ومحيطها، حيث طلب منه أن يستعمل هذه الخرائط بدل «جوجل إرث»، لتحديد المواقع التابعة لـ«حزب الله».

وهكذا كان: «مركز الإمام الخميني الثقافي» علّم بالأحمر، وكذلك «المدرسة الدينية» في صور ومركز مفوضية الجنوب التابعة لـ«كشافة المهدي»، مركز التعبئة النسائية، «مؤسسة القرض الحسن»، منزل الشيخ ياسين مسؤول الجامعة الدينية…
بعد يومين اتصل فرنسيس مبدياً امتعاضه من لائحة الاهداف، معتبراً أنها غير كافية. كما أبدى رغبته بالحصول على المزيد سواء في صور أو خارجها. كان ذلك عام 2008.

مر الوقت بطيئاً فيما بعد، حيث شحت الاتصالات وإن لم تنقطع، إلى أن أعلن فرنسيس في إحداها بأنه يرغب في لقائه إما في قبرص أو في شرم الشيخ، أو في الأردن، حيث يمكنه إدخاله عبرها إلى إسرائيل. وترك له حرية الاختيار، وكذلك تحديد الأماكن التي يريد زيارتها. فضل الشاب الأربعيني أن يتم اللقاء في الأردن، مرفقاً رسالته بما يرغب في زيارته من معالمها، إلا أنه عاد وتراجع عن فكرة السفر برمتها «نظراً لالتزاماته المهنية».

بعدها عاد الإثنان إلى المهمة السابقة، فطلب فرنسيس منه تحديد أماكن المخازن الكبيرة والمستودعات التي يمكن لـ«حزب الله» أن يخزن فيها الاسلحة. وطبعاً لم يتوان ع. ب. عن القيام بالامر وحدد له مجموعة من المستودعات في صور والعباسية ومحيطهما.
بعدها طلب منه أن يحدد كل الاماكن التابعة لـ«حزب الله» في بلدة العباسية، فأعلم ع. ب. مشغله بصعوبة المهمة كونه لا يمكن التجول كثيراً في البلدة، مشيراً إلى أنه يعرف ثلاثة منها هي: مختبرات الزهراء على مثلث بلدة قانون النهر التي سبق وقصفت في «حرب تموز»، جامع العباسية كونه يوجد تحته مستودع كبير للحزب، بالاضافة إلى قاعة بالقرب من الجامع. هذه الأهداف أضاف إليها دفعة إضافية: مركز «كشافة المهدي» وإلى جانبه منزل تابع لـ«حزب الله» من آل درباج، منتدى العباسية الثقافي، منزل «مسؤول كبير في الحزب من آل عز الدين».

الخلاف بين الطرفين ظهر مجدداً بعدما طلب فرنسيس منه تحديد كل الاهداف الموجودة في «سنتر الرز» في أول البلدة، ولم يقتنع بما قاله ع. ب. من أن السنتر الذي يحتوي على نحو عشرين مبنى لا يضم أية مواقع أو مراكز لـ«حزب الله».
استمرت العلاقة فاترة بعد ذلك إلى أن تحرش ع. ب. بمشغله الذي سبق وأعطاه اسم «أورلي»، موجهاً رسالة اعتذار عن أي تقصير، وراجياً إعلامه بما يريد تحديده لكي يتممه بشكل جدي.
وبلغته العربية المكسرة، ومكرراً عبارة «يا حبيب القلب»، كمحط كلام، طلب فرنسيس المزيد من الأهداف، فكان له ما أراد. وضعت الإشارات الحمراء على: «مركز الشهيد محمود رباح الاجتماعي» العائد لـ«حزب الله» قرب ثانوية العباسية، المنطقة المحددة من مثلث دير قانون النهر حتى أطراف بلدة العباسية وهي منطقة عسكرية خاضعة لسيطرة الحزب، عمود الارسال الخاص بالحزب قرب مستشفى بشور، منازل أعضاء في الحزب، مؤسسة البسري، وغيرها العشرات من الأهداف التي لا تحتاج إلى الكثير من البحث لتبيانها، وهي المعروفة من قبل معظم أهالي المنطقة، كمراكز مؤسسات الحزب الثقافية والطبية والكشفية والاجتماعية.

في بداية 2009 صار الطلب أكثر تحديداً، طلب فرنسيس من «أورلي» (ع. ب.) مراقبة خمسة مراكب صيد متوقفة في ميناء صور، أربعة منها لآل السمراء وواحد لشخص من آل اسطمبول.. موعد انطلاقها صباحاً نحو عرض البحر وموعد عودتها وأرقام هذه المراكب وأسماؤها.

بعدها طلب منه التأكد مما إذا كان عناصر «حزب الله» يقومون بمراقبة شواطئ المدينة. كما طلب منه معلومات عن أشخاص يستأجرون الشقق في صور، تحركات الحاج حسن حب الله والشيخ علي حب الله والشيخ حسن شحادة والحاج علي الدهيني وجميعهم مسوؤلون في «حزب الله» (أنواع سياراتهم وأرقامها ووقت خروجهم من منازلهم ووقت عودتهم). فنفذ «أورلي» كل ما طلب منه.
في العام الماضي، أراد فرنسيس معلومات عن سفينة «مريم» التي كانت ستتوجه إلى قطاع غزة، طالباً منه تحديد الجهات المنظمة وعلاقتها بـ«حزب الله». كما أراد معرفة المواد التي ستحملها السفينة، داعياً إياه إلى السعي ليكون أحد ركابها، لكي يتمكن من دخول اسرائيل ولقائه.

خلال اسبوع جمع «أورلي» ما تيسر له من معلومات. كما اتصل بمنظمي الرحلة سائلاً عن امكان انضمامه إلى ركابها. وبعد عدة اتصالات، أبلغ أن الامر متعذر نظراً لاكتمال العدد. أعطاه كل المعلومات المطلوبة وزاد عليها تحليلاته الخاصة ومنها اعتقاده أن في الأمر إن…. وأن القضية ليست قضية مساعدات فحسب.

في النصف الثاني من 2010 استمر «أورلي» بعمله مخلصاً لمشغله رغم انه لم يحصل على أي مبلغ إضافي منذ سنوات، وتحديداً منذ الألفي دولار التي كانت الدفعة الأولى والأخيرة، رغم مطالبته بالمال مرات عدة، من دون أن يلقى إلا المماطلة. ومع ذلك استمر بالتعامل مبرراً الامر بالنقمة على المجتمع الذي يعيش فيه وبالإهمال الذي واجهه، آملاً في الوقت نفسه، بقبض الأموال لاحقاً ومتخوفاً من قطع العلاقة مع الاسرائيليين، بعدما غرق في التورط.
بناءً عليه، تابع عمله كالمعتاد محدداً معظم الأهداف والمواقع التابعة لـ«حزب الله» في صور ومحيطها.

حاول «أورلي» (ع. ب.) إقناع مشغله بأهميته، فقدم له ما قال إنه معلومات عن: «عمل عسكري سيقوم به الحزب في ذكرى أسبوع على وفاة عماد مغنية». احتمال إسقاط طائرات بواسطة صواريخ أرض جو، تهريب أسلحة، إضافة إلى معلومات عن شخصيات في «حزب الله» مثل توفيق فارس، عماد مديحلي، رضا السمرا، حسين سلامة وعلي سلامة، إضافة إلى مئات الإحداثيات عن كل ما قد يشكل ضرراً محتملاً على «جيش الدفاع الإسرائيلي»، كما يحب أن يسميه أمام مشغليه… لكن سرعان ما وقع في الفخ، ولم يحتج الى كبير عناء للإدلاء بكل ما في جعبته في التحقيقات التي أجراها معه فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي.

السابق
بري: ما في شي ما عملتو
التالي
السفير عن مصادر: خلاف جديد بين سليمان وعون حول التسمية للداخلية