طالبانيّة علمانيّة في الجامعة الأميركيّة؟

لا بد من الاتفاق على أن الآنيّات لا تلغي الأساسيّات. ويظلّ من المسلّم به أنّ ما قد يكون داهماً، حتى لو صار أولوياً، لا يمكن أن يلغي ما هو جوهريّ وبنيويّ.
من هنا ضرورة الكلام ـــــ وسط كل ما يحصل عندنا وحولنا ـــــ عن «حدث» سُجّل قبل أيام في الجامعة الأميركية في بيروت. منذ مدّة غير قليلة، يبدو أن الصرح العلمي الأكاديمي التاريخي في قلب العاصمة اللبنانية، يعيش نوعاً من «رهاب» انتمائه وخوفه منه، حتى الهرب والتهرب والتنصّل من مضمونه ومنابعه وإلهاماته وثقافته. وليس المقصود بذلك الانتماء الأميركي الاسمي لهذا الصرح، بل الأهم والأخطر، هو رهاب الانتماء الروحي لأهم مؤسسة أكاديمية في المنطقة، تأسست منذ عام 1866. هكذا، قبل مدّة غير قصيرة، ألغي اسم كنيسة الحرم الجامعي، أو ما كان أهل البيت يعرفونه باسم «تشابيل»، أو الكابيلّا، ليصير «أسمبلي هول»، أو قاعة الاجتماع أو الجمعية العامة. وقيل إن هذا الرهاب تحكم بالعديد من الخطوات الإدارية والأكاديمية والتعيينات، فيما كانت تغييرات أساسية تحصل على صعيد مجلس أمناء الجامعة. تغييرات واضحة المنحى والهوى والاتجاه. سمَتها الثابتة عنصر المال، مع ما يحمله هذا العنصر من إلزامات وارتباطات ومقتضيات في السياسة اللبنانية والشرق أوسطية. يكفي الاطلاع على أسماء هؤلاء على لائحة المجلس، ليدرك العارف العادي، كنه تلك التغييرات.

قبل ايام، كانت مؤسسة دانيال بليس ورفاقه على موعد مع محطة جديدة. للمرة الأولى منذ أسسوها قبل 145 عاماً، قرر «أحدهم» تبديل شعار الجامعة التاريخي. العذر المعطى والسبب الموجب الذي قُدم لأهلها، أن المشروع هو في سياق حملة دعائية للجامعة، من نوع تحسين صورتها. وكأن هذا الصرح بحاجة الى دعاية، أو كأنه يعاني خللاً في صورته أو تشوّهاً في مقامه، ليأتي من يعمل على التغيير وإطلاق تخرصات «الكوربوريت إيماج»… النتيجة قرار مبرم بتغيير الشعار: نوع من «ري ـــــ لوكينغ» بتعبير أهل السوق والتسويق. أزيلت خطوط، أضيفت ملامح مريبة، عًدّلت ألوان. صمد تاريخ التأسيس ـــــ 1866 ـــــ، لكن الصدمة كانت تطيير العبارة اللاتينية التي وضعها المؤسسون على شعار الجامعة منذ ذلك التاريخ، والتي ترجمتها: «لتكن لهم حياة، ولتكن لهم أوفر». وفي بعض الترجمات، ومنها ما هو محفور على صخر الحرم نفسه، «ولتكن لهم أفضل».

عند إعلان الشعار الجديد، تنبّه كثيرون من أهل الجامعة من مختلف الطوائف والمذاهب، إلى إسقاط العبارة ـــــ الشعار التاريخي. وتنبهوا ونبهوا بصراحة، إلى أنّ هذه العبارة استقاها المؤسسون من إنجيل يوحنا، في الفصل العاشر منه، الآية العاشرة. حيث يقول يسوع للفريسيين: «أمّا أنا فجئت لتكون لهم الحياة، ولتكون لهم أوفر». هكذا، لم يفت أهل البيت لفت نظر «صاحب» القرار التسويقي الدعائي الإعلاني الجديد، إلى أنه يُسقط بإسقاطه هذا قيمة تأسيسية للصرح، وقيمة روحية في الوقت نفسه، ويفتح الباب واسعاً أمام السؤال عن خلفية تلك الخطوة. ولم يلبث الموضوع أن تحوّل مادة لرسائل إلكترونية بين المصدومين بالخطوة وبين «صاحب» القرار. لكن الصدمة الثانية جاءت في هذا المجال، عبر «حظر» تلك الرسائل، ووضع «بلوك» عليها بالطرق المعلوماتية، لمنع وصولها الى جميع المعنيين، وهو ما أثار تساؤلات أكبر، لم يلبث أن حاول أحد التبريرات التخفيف منها، بالقول إن العبارة الإنجيلية أبقيت على الختم الرسمي للجامعة، لكنها أزيلت عن الشعار العلني.

قد تكون المسألة برمّتها أمراً تقنياً تفصيلياً داخلياً مرتبطاً بمؤسسة خاصة. لكن حين يأتي في سياق مجتمعي عام، منذ ما سبق وحتى ما يحكى ويُرهص، فهو يتحول نوعاً من نذير من نذر ما يمكن وصفه بطالبانية جديدة مقنّعة. طالبانية لا تحصل باسم دين معيّن، بل ضدّ اعتقاد روحي معيّن، وباسم علمانية سلبية لاغية وناقضة ورافضة، لا علاقة لها إطلاقاً بالعلمانية الإيجابية التي يتّجه إليها الفقة الحقوقي الإنساني عبر العالم. فإذا كان ثمة من يتوهم طرد «الله» من «المدينة»، فليراجع
تجارب موسكو ويوغوسلافيا وتيرانا وسواها، فيما المطلوب فعلاً، هو الفصل الكامل بين مؤسسة هذا «الله» أياً يكن، وبين مؤسسة «الدولة» بما يبقيه رباً ويجعلها دولة.

فما بال «صاحب» قرار الإلغاء وحاله، ونحن في لبنان. حيث علّة وجود الدولة والمجتمع والسلطة والكيان، هو هذا التنوّع تحت سقف الحرية، وهذا القبول بالآخر، كما هو، لا كما نريد له أن يكون. وحيث إيناع الشخص الإنساني مشروط بهذا
التعدد المتلازم مع القبول والاعتراف والاحترام والتثاقف.

لماذا حصل أو يحصل ما يحصل؟ ربما لأنه كان قد قيل في يوحنا نفسه، إن «السارق لا يجيء إلا ليسرق ويقتل ويهدم، أما أنا فجئت لتكون لهم الحياة، ولتكون أوفر».

السابق
غزال يوارى الثرى في الشوف الاثنين
التالي
بين صلاحيّات الوزير ودور الحكومة، أين أخطأ الشامي؟