لبنان على المفترق السوري الخطر

تحاول الدولة اللبنانية بكل ما أوتيت من قوة، أن تسد أي باب تأتيها منه الريح السورية لتستريح، وعلى النحو نفسه يفعل أشد السياسيين اللبنانيين عداوة للنظام السوري، كما أكثرهم حماسة للدفاع عنه. فكلهم يفضلون الصمت والانتظار، ليتبين الخيط الأبيض من الأسود في دمشق، إلا تلك القلة القليلة التي انبرت للتحدث باسم سورية وقيادتها.

المراهنون على تغيير النظام، يدركون جيدا أن المواقف الدولية والعربية، لا تذهب لغاية اللحظة، بما تشتهيه سفنهم. فأقصى ما تطلبه واشنطن حتى الآن «هو احترام حق التظاهر، والتجاوب مع مطالب الشعب بالإصلاحات» وحتى العقوبات التي يراد فرضها على سورية تبقى شكلية وغير مؤثرة بما يهدد النظام فعليا، فيما لم يكن ساركوزي متحمسا للذهاب إلى الأمم المتحدة أو إطلاق تصريحاته المتوعدة لولا ضغوط خارجة عن إرادته. وهو ما جعل محللة سياسية فرنسية تكتب مطولا، مفندة أسبابا وجيهة لمهادنة الغرب للنظام السوري والتخوف من تغيير غير مأمون العواقب قد يقلب الخريطة السياسية في الشرق الأوسط كله، معتبرة الأسد «ديكتاتورا عزيزا ومدللا». وهذا ما يأخذه المستعجلون رحيل الأسد في لبنان بعين الحيطة والحذر. فكثير من المحللين الأميركيين القريبين من مواقع القرار، يعتبرون أن على أوباما أن يواصل الضغط على النظام السوري، لا لإسقاطه وإنما لإضعافه إلى الحد الأقصى الذي يجبره على حل سلمي مع إسرائيل، بأقل الأثمان الممكنة. وبمعنى آخر اتباع الوصفة السودانية التي آتت أكلها مع الرئيس عمر البشير وأجبرته على شراء براءته من المحكمة الدولية باستقلال جنوب السودان عن شماله، بدليل أن الكلام عن دعوى مماثلة ضد الرئيس السوري بات مطروحا بقوة. وهكذا يكون بمقدور أوباما أن يشهر ورقة سلام في الشرق الأوسط، أثناء حملته الانتخابية لولاية ثانية لم يسبقه إليها أحد.

المدافعون عن النظام السوري، وأبرزهم حزب الله، انخفضت تصريحات مسؤوليه فيما يخص الوضع في سورية إلى حدها الأدنى وغاب الأمين العام للحزب حسن نصر الله عن الشاشة كليا، لا سيما منذ بدأ ناشطون سوريون يتهمون عناصر من الحزب بالتورط في القتال ضدهم. وهو ما لم يتمكن أي أحد من تأكيده. أما الاتهامات التي وجهتها سورية لتيار المستقبل بتهريب أسلحة عبر بواخر، والتخريب في الداخل السوري – من خلال تورط النائبين في التيار عقاب صقر، وجمال الجراح، فيرد عليها بعض أفرقاء «14 آذار» – بأنهم من الضعف بحيث لم يتمكنوا من الدفاع عن مصالحهم في لبنان، فمن أين لهم الحيلة لحياكة ألاعيب في سورية؟ وهو ما يبدو منطقيا، خاصة أن سورية لم تقدم أي دليل راسخ يدعم اتهاماتها. وهكذا ينتظر الطرفان اللبنانيان اللدودان، اللذان بات يوحدهما الاتهام بالتدخل في سورية – إما من جانب السلطة أو من جهة المعارضة – ما ستسفر عنه الأحداث الدائرة على مبعدة كيلومترات قليلة من بيروت. ويكتفي تيار المستقبل بصد هجوم سورية عليه، فيما يلتزم حزب الله الصمت حيال أي كلام يتهمه بمساندة النظام السوري ضد الأهالي المتظاهرين، وينفّس الطرفان كبتهما بهجوم بعضهما على بعض.

المخاوف في لبنان من انتقال حمى الثورة السورية، نزاع بين مؤيد ومعارض لها، داخل الأراضي اللبنانية، ليس بالأمر المستبعد. فالوضع المتأزم في سورية ينعكس شللا في قدرة الرئيس نجيب ميقاتي على تشكيل حكومة جديدة، ويضع البلاد في حالة جمود كامل، كما يلزم القوى الأمنية اللبنانية بتنسيق وثيق مع الأمن السوري، تفاديا لأي محاولة لتهريب الأسلحة عبر الحدود، قد تقوم بها أي جهة متبرعة بمساعدة الأشقاء الثائرين.

وما شهدته طرابلس الأسبوع الماضي، وهي لا تبعد عن الحدود السورية سوى نصف ساعة بالسيارة يدل على نار متأججة تحت رماد. فقد عاشت المدينة رعبا استمر يومين، لمجرد دعوة «حزب التحرير» الذي يضم عددا صغيرا من المناصرين، لمظاهرة تدعم أهالي سورية ضد النظام. وبأسلوب غير مألوف، في بلد الحرية والمظاهرات، نزلت قوات مكافحة الشغب بأعداد كبيرة إلى جانب الجيش، وسدت الطرقات واعتلت أسطح المنازل، وهرع التجار يغلقون متاجرهم، ويتنادى الناس باللجوء إلى البيوت قبل انقضاء صلاة الظهر وبدء المظاهرة، لنكتشف بعد ذلك أن الذين قرروا التظاهر، رغم كثرة عدد الراغبين في ذلك لم يتجاوزوا الـ300 شخص. وبالتالي فلبنان الذي غالبا ما عرف بصخبه، يقرر ربما للمرة الأولى، أن يتزود بكاتم للصوت. والحيطة البالغة لا تأتي فقط من قبل الدولة، وإنما حتى من قبل الناس أنفسهم، بما فيهم الغاضبون والناقمون على النظام السوري، أو الخائفون عليه لما تربطهم به من مصالح مصيرية.

فالمخاوف كبيرة ومتعددة، والأسئلة كثيرة، فيما المستقبل غامض، والاحتمالات في سورية مفتوحة ما دام الجرح يتسع وينزف. استمرار سيلان الدماء السورية لفترة طويلة، أو تطور الأوضاع باتجاه حرب أهلية سيضع لبنان في عين العاصفة. فيكفي أن يلقي واحدنا نظرة على الخريطة، ليعرف أن جغرافية لبنان في قلب الحاضنة السورية ستجعله داخل معمعة دموية يصعب عليه احتمالها. فمجرد إغلاق الحدود مع سورية، وهي منفذه الوحيد بريا سيخنقه اقتصاديا، أما إذا مالت الكفة لأي طرف سواء كانت السلطة أو المعارضة هناك، فإن رد فعل الفريقين المتخاصمين في لبنان سيبدأ بالتصاعد، كما لو أنه صدى للأحداث الدائرة هناك. من قال إن لبنان نال حريته واستقلاله عن سورية لا بد أخطأ كثيرا، فلا يزال لبنان مرهونا بالدولة الشقيقة. صحيح أن للنظام السوري أوراقا كثيرة لا يزال بمقدوره أن يحركها، مرورا بالعراق وصولا إلى إيران وحتى أفغانستان إلا أن الورقة اللبنانية قد تكون الأقرب والأسهل في لعبة يصعب التكهن اليوم بمجرياتها.
ولا نكون متشائمين لو قلنا إن اللبنانيين من الفطنة بحيث لن يحتاجوا، من يجندهم، وسيسعى كل طرف منهم لأن يبدأ بتحقيق مكاسبه المنشودة، التي قد تكلف غاليا، بمجرد استشعار

السابق
المحافظون الجدد وخطة الشرق الأوسط الجديد
التالي
الحياة عن مصادر: محاولات إزالة العقبات تجددت في الساعات الأخيرة