الحقيقة في ساحل العاج .. القصة غير المروية

مع الدخول في فصل جديد من الحرب الأهلية في ساحل العاج، التي يبدو أنها تقترب من نهايتها، أصبح الوقت مناسباً للجميع الآن كي يعرفوا القصة الحقيقية غير المروية عن أزمة ساحل العاج، وما هي المسائل الحقيقية التي أدت بالبلاد إلى هذا الوضع المأساوي الذي تعيشه.

لقد أجمعت التحليلات للوضع في ساحل العاج على أن الأمر متعلق بالانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية العام الماضي، والتي فاز بها كما يُعتقد /الحسن واتارا/ وبالتالي أصبح “رئيس ساحل العاج المعترف به دولياً بشكل رسمي” وبأن /لوران غباغبو/ الرئيس المنتهية ولايته، رفض أن يسلم مقاليد السلطة إلى /واتارا/ لأنه يعتقد بأنه هو من فاز بالانتخابات، وهذا الأمر قد يكون صحيحاً، لأنه وحسب تقرير صادر عن لجنة الكونغرس الأمريكي التي ذهبت لساحل العاج لمراقبة الانتخابات، فقد حدثت تجاوزات كبيرة في الدوائر الانتخابية الموجودة في المناطق التي يسيطر عليها أنصار /واتارا/.

لكن الخداع حول الانتخابات ليس سوى السياق وتوظيف وسائل الإعلام الغربية للمسألة على أنها تأتي فقط نتيجة للخلاف بشأن نتائج الانتخابات. إن كل هذا يدعونا لنقرأ وبحذر طريقة تعامل إعلام الغرب مع القضايا الأفريقية، حيث نرى بوضوح الازدراء الذي يتعامل به هذا الإعلام مع أفريقيا بشكل عام. وبالنتيجة لا يمكن تبسيط الأمر أو تقزيم المشكلة في ساحل العاج وحصرها بقصة نتائج الانتخابات المتنازع عليها وحرف نظر العامة عن الأسباب الحقيقية للنزاع هناك.
إن القصة الحقيقية لما يجري في ساحل العاج لها علاقة بمعركة ترتبط بالامبريالية الفرنسية ومحاولة السيطرة على مقدرات البلاد. ما يعنيه ذلك فعلاً هو وجود /غباغبو/ الذي يقف ضد مصالح الامبريالية الفرنسية في ساحل العاج من جهة، ووجود /واتارا/ الذي يمكن وصفه بأنه الشخصية الأنسب لحراسة المصالح الفرنسية هناك من جهة أخرى.

وكذلك يأتي الأمر في سياق درس التاريخ الذي يعود بنا إلى نهاية خمسينيات القرن الماضي عندما بدأت رياح التغيير تهب على القارة السمراء بعد حصول غانا على استقلالها ونهوض حركة التحرر الأفريقية. لقد عرف /شارل ديغول/ الذي كان الرئيس الفرنسي حينها بأن رياح التغيير تلك على امتداد الأفق الأفريقي سوف تشمل كل الدول الواقعة تحت الحكم الاستعماري الفرنسي.

لذلك قام ديغول باختراع ما يسمى مجموعة الدول الفرانكفونية، والتي بموجبها يمكن لما كان يوماً مستعمرات فرنسية أن ينال الاستقلال تحت شرط هام وهو أن تتخلى تلك الدول عن 90% من عائداتها لصالح الإيداع في وزارة الخزانة الفرنسية في باريس وأن يتم ربط عملاتها المحلية بالفرنك الفرنسي ما يسهل سيطرة الشركات الفرنسية على موارد تلك الدول في المستقبل، وخصوصاً في أفريقيا الفرانكفونية. وهنا يجب تذكير القيادة السياسية في ساحل العاج بأن دول أفريقيا من أعضاء نادي الفرانكفونية تمتلك مصادر معدنية ضخمة مثل اليورانيوم المخصب والذهب والألماس والكروم والنفط والغاز، وكل ذلك عناصر حيوية هامة للصناعة الفرنسية.

وبما أن الدول الفرانكفونية كانت متحمسة جداً للاستقلال السياسي عن باريس، قبل بعض قادة تلك الدول الشروط الفرنسية المجحفة بسذاجة أو دون تفكير، فيما قبلها الآخرون رغم علمهم بتأثيراتها المدمرة على دولهم. وبتوقيعهم على تلك الاتفاقية التي كفلت “استقلالهم” الفرانكفوني هذا، كانوا بذلك يوقعون على عبودية بلادهم للأبد للمصالح الاقتصادية الفرنسية.

ومن ضمن ما تعنيه تلك المصالح أنه يحق للشركات الفرنسية العاملة في الدول الفرانكفونية أن تصل إلى أسواق تلك الدول دون أي رسوم أو ضوابط وأن تحصل بسهولة على العقود الحكومية، وربما في الخفاء أن تُعفى أو تتهرب تلك الشركات من دفع أي ضرائب فيما تحول أرباحها الضخمة إلى باريس دون أن تستفيد منها أفريقيا بشيء. أما الدول الفرانكفونية التي رفضت هذه الصيغة وقاومتها مثل بوركينا فاسو برئاسة /توماس سانكارا/ فقد واجهت عقوبات اقتصادية قاسية في البداية، وعاشت على وقع الانقلابات العسكرية المدعومة فرنسياً في مرحلة لاحقة.

لقد كان /غباغبو/ الذي قرأ التاريخ جيداً على معرفة عميقة بهذه الاتفاقية الشيطانية التي تضع عائقاً رئيسياً محبطاً بوجه التحرر الاقتصادي والتطور في الدول الفرانكفونية، ويتم النظر إليها على أنها العائق الأساسي الذي يقف بوجه تأميم الصناعات الأساسية لإبعادها عن قبضة التحكم الفرنسي بقدرات تلك البلاد.

من المهم أيضاً الإشارة في هذا السياق إلى أن ساحل العاج هي أكبر منتج لمادة الكاكاو في العالم وهي المادة التي تعتبر المكون الرئيسي في الحلويات مثل الشوكلاته وفطائر الحلوى وصناعة الحلوة الفرنسية التي تساوي مليارات من اليورو سنوياً، وبالتالي فإن السيطرة على المادة الخام من الكاكاو تعتبر هدفاً رئيسياً للامبريالية الفرنسية في ساحل العاج.

إن القيادة الفرنسية وكذلك النخبة في باريس تعلم جيداً ما يدور برأس «غباغبو» وما هي أجندته الوطنية الصرفة التي تتضارب مع مصالحها، لذلك لم تتوان عن استخدام كل ما في جعبتها من أسلحة لمحاربته، بدءاً بالتأثير على الانتخابات الوطنية، ووصولاً إلى منع «غباغبو» من تطبيق إصلاحاته التي لو كتب لها النجاح لكان لها تأثير كارثي على الاقتصاد الفرنسي.

إذاً، أصبح الأمر واضحاً، فلو نجح /غباغبو/ في مسعاه لكانت بقية الدول الفرانكفونية في أفريقيا حذت حذوه وعملت على تطبيق إصلاحات اقتصادية ما سيؤدي بالاقتصادي الفرنسي إلى التهلكة، لأنه سيفقد الموارد الأفريقية التي تمول البرامج الاجتماعية والاقتصادية لباريس. ومن أجل هذا الأمر تحديداً حشدت فرنسا حلفاءها الغربيين جميعاً للإطاحة بـ /غباغبو/ ووضع /واتارا/ مكانه.

ويظهر الدعم الفرنسي الجلي لـ /واتارا/ من خلال الدعم العسكري الفرنسي المباشر لقواته ومن حوامات الجيش الفرنسي التي قصفت دون هوادة قوات /غباغبو/ ودعمت ما يسمى قوات الثوار التي تدعم /واتارا/ في حصارهم الذي أطبقوا به على القصر الرئاسي العاجي، حيث كان بينهم العديد من قوات المرتزقة الفرنسيين.

وهنا لا بد من التساؤل: لماذا تدعم باريس /واتارا/؟!.. حسناً، كان /واتارا/ موظفاً سابقاً في صندوق النقد الدولي وهو من درس في الغرب وتم تدريبه هناك، لذلك يتم النظر إليه على أنه ملاذ آمن للمصالح الفرنسية خصوصاً والغرب عموماً في ساحل العاج وكأنه حارس على أملاك باريس هناك!

وعندما بدا أن السيد /واتارا/ أحكم سيطرته على ساحل العاج، فإن هذا سيعني بأن الامبريالية الفرنسية والغربية بشكل عام قد حققت انتصارها الكبير، وبالتالي سوف يعاني اقتصاد ساحل العاج والدول الأفريقية الأخرى موجة أخرى من الاستغلال الشنيع والعودة إلى مرحلة نهب مواردها حتى تتخم السمنة باريس وبقية عواصم الغرب.
 ترجمة: سـليمان حسّون- البعث

السابق
نحو مشهد سوري قوي ومعافى
التالي
الجراح: قلق من إمكانية اغتيالي لأن جميع الشهداء تعرضوا لافتراءات وأكاذيب