استبداد الفرد.. أو الحرية المتوحشة

خلق عصرنا وحشًا جديدًا بعد عقود من التّوتاليتاريّة، وحش الفرديّة الجامح الّذي يهيمن على حساب المجتمع.
لا يكفي معرفة كيف تبوّأ زعيم ما سدة الحكم، إن بانتخابات حرّة أم بانقلاب سياسيّ، لتصبح سلطته شرعيّة، إنّما ينبغي مراقبة ممارسته هذه السلطة. ومنذ حوالى ثلاثمئة عام، وضع مونتيسكيو قاعدة انطلق منها المشرّعون، ومفادها أنّ «كلّ سلطة مطلقة تفقد شرعيّتها».

سلّطت التّجارب التّوتاليتاريّة في القرن العشرين الضّوء على مخاطر السّلطة المطلقة القادرة على التّحكّم بتحرّكات المواطن وأفعاله. والجدير بالذّكر على الرّغم من زوال الأنظمة التّوتاليتاريّة في أوروبّا، فإنّ الدّول الدّيموقراطيّة ما زالت تشهد تدخّلات الحكومة في مسائل القضاء أو وسائل الإعلام، لأنّها بتدخّلها هذا تقضي على كلّ ما قد يهدّد سلطتها. فالهجمات الّتي يشنّها الرّئيس الفرنسيّ أو رئيس الوزراء الإيطاليّ مثلاً على القضاة والصّحافيّين خير دليل على ذلك.

يبقى أنّ السّلطة في مجتمع ما لا تخضع لقبضة الدّولة فحسب. ففي مطلع القرن الواحد والعشرين، خسرت الدّولة في الغرب جزءاﹰ كبيراً من نفوذها، فيما أمست السّلطة الواسعة الّتي تمتّع بها بعض الأفراد والجماعات حينذاك تشكّل تهديداﹰ بحدّ ذاتها، إلاّ أنّ أحدًا لم يتدارك هذا التّهديد لأنّ السّلطة اختبأت خلف شعار ينادي به الجميع وهو شعار الحرّيّة. ولأنّ حرّيّة الأفراد سمةٌ تزداد أهمّيّتها يوماً بعد يوم، يبدو اليوم المدافعون عن الخير العامّ أناسا متخلّفين.

من اليسير فهم كيف حدثت الانقلابات في الدّول الشّيوعيّة سابقًا في أوروبّا الشرقية. أمّا اليوم، فالمصلحة العامّة في هذه الدّول تثير الشّكّ، لأنّ النّظام السّابق غالبًا ما استعان بهذا المفهوم ليستّر عن ممارساته الدّنيئة، حتّى كفّ الشّعب عن تصديقه معتبرًا كلّ ما يرتبط بـ«المصلحة العامّة» مجرّد قناع خدّاع. وﺇذا كان محرّك التّصرّف الوحيد هو السّعي إلى تحقيق الرّبح والتّعطّش إلى السّلطة، وﺇذا كان قانون الوجود القاسي هو الصّراع الّذي لا يرحم وبقاء الأكثر جدارة، فحريٌّ بنا إذًا أن نوقف الخداع وأن نسنّ شريعة الغاب علانيّةً. إذًا، يفسّر هذا الاستسلامُ كيف نجح الأعضاء السّابقون في الحزب الشّيوعيّ السّوفياتيّ في التّحوّل بسهولة مربكة إلى اللّيبراليّة المتطرّفة.

وفي سياق تاريخيّ مختلف كلّيًّا، تأسّس مؤخّراً حزب «حفلة الشّاي» على بعد آلاف الكيلومترات من روسيا، وتحديداً في الولايات المتّحدة الأميركيّة. ينادي برنامج هذا الحزب بحرّيّة الأفراد المطلقة ويرفض شتّى أنواع الرّقابة الحكوميّة، ويطالب أيضًا بتخفيض الضّرائب بشكل حاسم، وبتنظيم سياسة جديدة لإعادة توزيع الثّروات. أمّا المصاريف المشتركة الوحيدة الّتي تحظى برضى مناصري هذا الحزب فهي المتعلّقة بالجيش والشّرطة، أي المصاريف الّتي تصبّ في أمن الأفراد، وكلّ من يعارض هذه الرّؤية متّهم بأنّه «شيوعيّ خفيّ»! وتكمن المفارقة في أنّ حزب «حفلة الشّاي» ينسب نفسه إلى الدّين المسيحيّ الّذي يوصي بالاهتمام بالفقراء والبائسين.

ننتقل في الحالتين من تطرّف إلى آخر، من دولة التّوتاليتاريّة القصوى إلى دولة اللّيبراليّة القصوى، من نظام حكم مدمّر للحرّيّات إلى آخر مدمّر للمجتمعات إن صحّ القول. ولكن، يقضي مبدأ الدّيموقراطيّة بأن تخضع كلّ سلطة إلى بعض القيود، ليس سلطة الدّولة فحسب بل سلطة الأفراد أيضًا.

مضحك أن يقال إنّ الدّجاجة حرّة بالانقضاض على الثّعلب، فهي عاجزة عن القيام بذلك، بينما حرّيّة الثّعلب خطرة لأنّه الأقوى. إذاً، يحقّ لشعب سيّد ومستقلّ أن يسنّ قوانين تحدّ من حرّيّة مواطنيه، علمًا أنّ هذا الإجراء لن يؤثّر على كافّة أبناء الشّعب بالطّريقة عينها، فالغاية منه تقييد حرّيّة القويّ وصون حرّيّة الضّعيف.

تشكّل القدرة الاقتصاديّة أولى القوى الّتي يتمتّع بها الأفراد. وتهدف الشّركات التّجاريّة إلى تحقيق الرّبح وإلاّ فهي زائلة حكمًا. ولكن، إلى جانب المصالح الخاصّة، يستفيد سكّان كلّ بلد من مصالح عامّة لا تسهم بها الشّركات تلقائيًّا، بل تقع المسؤوليّة على الدّولة في تأمين الموارد الضّروريّة للاهتمام بالجيش والشّرطة والتّعليم والصّحّة والقضاء والبنى التّحتيّة والبيئة، علماً أنّ اليد الخفيّة الشّهيرة الّتي تنسب إلى آدم سميث لا تنفع كثيرًا في هذه الحالة، لا سيّما بعد أن أظهر «المدّ الأسود» في خليج المكسيك ربيع العام 2010 أنّ الشّركات النّفطيّة عندما تترك بدون مراقبة، تختار موادّ بناء زهيدة الثّمن وبالتّالي خطرة.

في أحيان كثيرة، تبدو السّلطة السّياسيّة ضعيفة جدًّا مقارنة مع السّلطة الاقتصاديّة الّتي يمتلكها الأفراد أو الجماعات. ففي الولايات المتّحدة مثلاً، سمحت المحكمة العليا بأن يحظى المرشّحون للانتخابات بتمويل من الشّركات تحت شعار حرّيّة التّعبير المطلقة، غير أنّ هذه الخطّة تجسّدت على أرض الواقع بالسّماح للأغنى بفرض مرشّحيهم.

أمّا رئيس الولايات المتّحدة الأميركيّة، وهو أحد أقوى رجال العالم، فاضطرّ أن يتخلّى عن مشاريع إصلاح الضّمان الصّحّيّ، وتنظيم النّشاط المصرفيّ، إضافةً إلى تخفيض الأضرار البيئيّة الّتي يسبّبها أسلوب الحياة الأميركيّ.
في البلدان الأوروبّيّة، غالبًا ما تخضع الحكومات لسلطة المال، ما يفسح المجال أمام أوليغارشيّة سياسيّة واقتصاديّة جديدة تدير المصالح المشتركة لحساب بعض الأغنياء، أو يسعى الوزراء في الحكومة وراء مصالحهم الخاصّة فيقبلون أن يغطّي «الغير» تكاليف عطلهم السّنويّة…

أحيانًا، يُظهر بعض الأشخاص حرّيّة التّعبير على أنّها أساس الدّيموقراطيّة، ويعتبرون بالتّالي أنّها لا تقبل أيّ قيد. ولكن، هل هذه الحرّيّة منفصلة عن حجم القوّة؟ إذ لا يكفي أن يتمتّع المرء بالحقّ في التّعبير، بل ينبغي أن تتاح له فرصة ممارسة هذا الحقّ، ففي غياب هذه الفرصة، لا معنى لكلمة «حرّيّة». والجدير بالذّكر أنّ وسائل الإعلام الكبرى في فرنسا مثلاً لا تقبل جميع المعلومات والآراء بالسّهولة نفسها، في حين أنّ لحرّيّة التّعبير الّتي في حوزة الأقوياء والأغنياء عواقب خطيرة على الّذين لا صوت لهم. نعيش جميعنا في عالم واحد، وإذا روّجت وسائل الإعلام أنّ العرب جميعهم إسلاميّون عاجزون عن الانخراط في المجتمع، سيعاني العرب جميعهم صعوبة في إيجاد وظيفة أو حتّى السّير على الطّرق بحرّيّة وبدون الخضوع للمراقبة.
ينبغي أن تحدّ القوانين أحيانًا من سلطة التّحدّث على المنبر العامّ، ولكن، ما هي معايير الاختيار بين الحدود السّليمة والحدود الخاطئة، أو موازين القوى بين المتحدّث والمتلقّي؟ الاختلاف كبير بين هذا الّذي يشنّ هجومًا على ذوي النّفوذ وذاك الّذي يختار أحد الأشخاص لجعله ضحيّة الأحقاد الشّعبيّة. ونظرًا إلى أنّ الصّحافة أضعف بكثير من الدّولة، ما من مبرّر بتاتًا للحدّ من حرّيّة الصّحافة في انتقاد أجهزة الدّولة، شرط أن تضع حرّيتها هذه في خدمة الحقيقة.

لم ينتهج موقع «ميديا بارت» الإخباريّ الفرنسيّ «أساليب فاشيّة» عندما نشر مقالاً فضح تواطؤ القوى الماليّة ورجال السّياسة، على عكس ما استنكر بعض السّياسيّين الّذين شعروا بأنّ المقال استهدفهم. كذلك، لا تعتبر تسريبات ويكيليكس توتاليتاريّة، فالأنظمة الشّيوعيّة جعلت في الماضي حياة الأفراد الضّعفاء مكشوفة على العلن وليس حياة الحكّام. ونظرًا إلى أنّ الصّحافة أقوى بكثير من الفرد، يعتبر الإعدام التّعسّفيّ الّذي تمارسه أحيانًا وسائل الإعلام بحقّ الأفراد تجاوزًا للسّلطة.

يجهل المدافعون عن الحرّيّة المطلقة الأقوياء الاختلافَ ما بين والضّعفاء فيكلّلون أنفسهم بالمجد، على غرار محرّر صحيفة «جيلاندز بوستن» الدّنماركيّة الّتي نشرت صورًا هزليّة عن النّبيّ محمّد عام 2005، الّذي أثار الموضوع مجدّدًا بعد خمس سنوات على نشر الصّور، مشبّهًا نفسه بكلّ تواضع مع المهرطقين الّذين أعدموا حرقًا في القرون الوسطى، ومع فولتير الّذي هاجم سلطة الكنيسة المطلقة آنذاك، ومع المنشقّين الّذين قمعتهم الشّرطة السّوفياتيّة. لا شكّ في أنّ الظّهور بمظهر الضّحيّة يغري أشخاصًا كثرا في أيّامنا هذه، بحيث نسي هذا الصّحفيّ أنّ الّذين مارسوا في الماضي حرّيّة التّعبير ناضلوا بشجاعة ضدّ الهيمنة الرّوحيّة العالميّة في عهدهم، وليس ضدّ أقلّيّة تعاني من التّمييز حول العالم.

إنّ تقييد حرّيّة التّعبير لا يعني المطالبة بأن تفرض الدّولة الرّقابة، بل الدّعوة إلى أن يتحلّى القيّمون على الوسائل الإعلاميّة بالمسؤوليّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ استبداد الأفراد ليس دمويًّا بقدر استبداد الدّولة، إلاّ أنّ هذا الاستبداد يعيق بدوره الحياة المشتركة. إذًا، ليس المرء مرغمًا على الاختيار بين التّطرّف تجاه الدّولة والتّطرّف تجاه الفرد، بل ينبغي عليه الدّفاع عن الاثنين، عن الدّولة والفرد في آن، فعندئذ، يحدّ كلٌّ من الطّرفين ممارسات الآخر المتعسّفة…
ترجمة أسيل الحاج – السفير

السابق
الشامي تسلم دعوة للمشاركة في إجتماع وزراء خارجية الدول الاسلامية
التالي
نتنياهو في شرك الانتفاضة