البحرين: الانتفاضة المنسية

ما يجري في البحرين يجرح ضمير ومشاعر أي عاقل. فهو ظلم صاف، أبشع ما فيه السكوت عنه. وقد نجحت السلطات البحرينية في إضفاء طابع طائفي موتور على مجمل الموقف، مصورة الأمر كصراع سني ـ شيعي، بل وكتدابير «مشروعة» ضد نوايا إيرانية للتدخل وحتى للانقلاب! وقد تكون تلك هي الصورة الشائعة خارج البحرين، بسبب حالة الاحتقان الطائفي التي تطغى على المنطقة برمتها، تغذيها مواقف بعض السياسيين ومواقع الانترنت وشبكات التلفزة. وكانت حالة الاحتقان الطائفي قد تراجعت كثيراً مع الثورتين التونسية والمصرية، في لحظة تسام، سرعان ما هُرع الى تسييجها والتخطيط لقضمها. ولكن داخل البحرين، ما زال الفرز يحدث على أساس سياسي، وما زال جمهور عريض من البحرينيين، سنة وشيعة على السواء، يقولون متى ما تمكنوا من القول، إن الانتفاضة التي قاموا بها كانت تطالب بإصلاحات سياسية وتدابير اجتماعية، تمتلك تاريخاً عريقاً من النضال خلفها. وقد تأسست الانتفاضة التي جرى اغتيالها، على ذلك التاريخ وعلى تقاليد راسخة في العمل السياسي والفكري والنقابي والمطلبي، كانت تميز البحرين بين دول الخليج برمتها. وكان قد سبق لتلك الحركة السياسية والمطلبية محاورة السلطات الحاكمة بشأن تلك المطالب وانتزاع تدابير إصلاحية، وإن جزئية، والاهم، الحصول على وعود تقر بمشروعية تلك المطالب. وفي الخفاء، كانت السلطات البحرينية تعمل ما في وسعها لإفراغ تلك التدابير من معانيها، ولجعل الوعود غير قابلة للتحقيق. ومن ذلك ما يقال له التجنيس السياسي الذي يهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للبحرين (!) ومن ذلك أيضا تشجيع مجموعات سلفية، جاهلة وبلهاء، على النمو وعلى احتلال مواقع في المؤسسات، وبخاصة في الجيش والأمن، كأدوات مضمونة لتسعير المواجهات المذهبية. وقد ظهرت إلى العلن الشديد في البحرين تلك المجموعات، وراحت تعلن أفكارها في الساحات العامة، بكلمات وأفكار لا تشرّف أبدا من يقف وراءها.
يظهر مجدداً، وهذه المرة بشكل جلي بل كاريكاتوري، كيف أن حالة الاحتقان الطائفي في المنطقة هي سلاح لتأطير التوترات السياسية والاجتماعية، واحتوائها عبر حرف معانيها. تقف السلطات السعودية خلف حكام البحرين، وقد هبت لنجدتهم وأرسلت قواتها إلى المنامة في إطار «درع الجزيرة»، بعدما مطَّت تعسفياً صلاحيات معاهدة الدفاع المشترك التي لا تنطبق إلا على التهديدات الخارجية، وهذه واحدة من وظائف اتهام إيران. ولا شك بأن المسلك الإيراني على العموم، سواء الكلامي أو الفعلي، ساعد هؤلاء كثيراً. فهو يكاد لا يتكلف عناء التمويه على حَمولته الطائفية، التي وجدت سندها في الأهوال التي ارتكبتها طهران في العراق.
وتحت ستار قانون الطوارئ المعلن في البحرين (كيف يمكن للمرء أن يكون مع رفع قوانين الطوارئ من كل مكان، وتأييد إرسائها هناك تخصيصاً؟)، يجري اعتقال العشرات كل يوم، ويتعرضون للتعذيب وأحياناً للتصفية الجسدية. وقد طالت الحملة حركة العمل الوطني (وعد)، وهي يسارية عروبية، غالبية أفرادها وقياداتها من أصول سنية، مما يزعج كثيراً السلطات في مسعاها لتوضيح الصورة الطائفية للصراع! ولذا يتعرض الأمين العام لـ«وعد»، السيد إبراهيم الشريف، الذي اعتقل فجر دخول القوات السعودية إلى البحرين، إلى تعذيب يتهدد حياته، كما ختمت مقرات الحركة بالشمع الأحمر. وأما حركة الوفاق الوطني الإسلامي بقيادة الشيخ علي سلمان، التي اشتهرت بحكمة مواقفها وحذرها من التطرف وتشديدها على عروبة وبحرينية منطلقاتها، والتي استقال نوابها من البرلمان بينما هم يمثلون نصف أعضائه إلا اثنين (18 من أصل 40 نائبا منتخباً!! رغم كل التدابير القانونية للالتفاف على مثل هذه النتيجة)، فقد جرى الاستغناء عن حلها، بل تعرضت قيادتها لأقل مقدار ممكن من القمع.
ولعل ذلك هو التكتيك الذي قررته السلطات البحرينية لفصل هذه الحركة عن قاعدتها وإحراجها أمامها، بل ولدفع تلك القاعدة إلى تأييد التنظيمات ذات الطابع الشيعي المتطرف، فتلاقي بذلك خطتها. إذ ما يجري حيال الشيعة البحرينيين، وهم أكثر من ثلاثة أرباع السكان، استباحة بكل معنى الكلمة. فعدا التوقيف، هناك حملة يتم على أساسها صرف الألوف تعسفياً من وظائفهم، في قطاعات التعليم والصحة خصوصاً، وفي كل المجالات على العموم. وهناك اعتداء على كافة الممتلكات والمؤسسات التي يصادف أن أصحابها من الشيعة، بما في ذلك المستشفيات. وهناك حل للنقابات وللجمعيات، بينما يستند نشاط هؤلاء إلى تقاليد نضالية عريقة. بل تظهر يافطات في شوارع البحرين تطالب بـ«القصاص» وتعلن، إلى جانب مشنقة يحملها الملصق، أن «لا عفو». ويلاقي هذا السلوك هوى أو رضا لدى جمهور واسعا في المنطقة العربية، تجذبه الخطابات المذهبية والتهويل بالخطر الإيراني. هذا علاوة على هؤلاء الذين يعتقدون أن ما يجري في البحرين هو ثأرهم الخاص من اضطهاد تعرضوا له، أو من غلبة لحقت بهم في العراق أو حتى في لبنان، كما يزعم مثلاً سعد الحريري شخصيا، الذي لم يتورع عن إطلاق تصريحات متهورة في هذا المجال، وغير لائقة بمكانته.
وهكذا يجري تنظيم الغد الأسود للبحرين، بما فيه دفع المضطهَدين على هذه الصورة إلى الانفجار والتمرد، وبما فيه مد الخطاب الإيراني بحجج وأدوات. وهي عجلة تتغذى من دورانها الذاتي، وقد لا تقف داخل حدود الجزيرة الصغيرة، بل قد تتوسع إلى منطقة الخليج برمتها، التي تحمل عناصر تفجر متعددة. فيا للهول، ويا لقصر النظر!

السابق
الجمهورية: إتصال جعجع بعون وفرنجية للمعايدة ترك وقعاً إيجابياً
التالي
صور: تزايد التعدي على الأملاك العامة لغياب قوى الأمن