فصح الهدوء …والقلق، في جنوب 2011

(خاصّ جنوبية)
لا يختلف فصح العاصمة عن فصح الجنوب، سوى بعناصر إضافيّة تصبّ في خانة تلك القرى التي أزهرت، في عطلة الفصح نهاية الأسبوع، ربيعًا وزحمة… وقلقاً.

فالقرى الجنوبية التي أمّها سكانُها المهاجرون والنازحون نبضت في عروقها الحياة مجددًا لأيام ثلاثة وتبدّلت معالم شوارعها التي كانت فارغة طوال العام إلا من دعسات كبار السنّ المختالين في حزن خريفها وفي مروج ربيعها.

لم تعفِ زحمة السيارات وأناسها قرية جنوبيّة إلاّ واخترقتها بصمت التائق الى عودةٍ ولو موقتة. على مدار ثلاثة أيام غلت قرى الجنوب بلا هوادةٍ على ناريْن: نار العطلة التي أثمرها الفصح، وسخت الدولة بتمديدها الى أربعة أيام، ونار الأحاديث اليومية التي "جرجرها" البيروتيون والمغتربون معهم الى صلب قراهم. كيف لا ومعظم تلك القرى ما تزال جاثية على أقدام المراكز الإسرائيلية التي أنهكت سكانها يومًا وهجّرتهم؟ كيف لا وأنظار العائدين تتجه في الدرجة الأولى الى ما وراء الهضاب، حيث يحدّق غضبٌ حاقدٌ تذكيه توقعاتٌ وتحليلاتٌ من القاطنين والمغتربين؟

أقدامٌ وأنوف

ليس جديدًا على قضاء جزين أن يحتفل بعيد الفصح مغمورًا بوجوهٍ ظنّ أن الأيام ستبعدها عنه يومًا. هنا، وفي تلك القرى التي أزهرت بساتينها ورودًا فاح عبيرها، عاد الكثيرون من المغتربين ليمضوا عطلة العيد مع ذويهم، كما استغلّ البيروتيون العطلة، الطويلة نسبيًا، ليقصدوا قراهم وأراضيهم وممتلكاتهم وذويهم.

الطقسُ هناك أسعف العائدين يوم العيد وظلمهم يومي الجمعة والسبت، قبل أن تشتهي أقدامهم من جديد ملامسة الأعشاب والزهور، وتنشد أنوفهم عبقاً لا يشتمونه في بلاد الصحراء أو في عاصمة التلوّث. تلك الزهور لن تضيع هدرًا مع أطفالٍ استغلوا المناسبة ليصنعوا، وفق تقليدٍ قروي، باقتهم الخاصّة ويضعوها على قبر المسيح أثناء الصلب والقيامة.

إذا هي مشهديّة ربيعيّة بامتياز أزهرت فصحًا على طول طريق جزين. لوحة اخترقها باعة الفول الى جانبي الطريق العام، وأبنية يشمخُ أساسها وقرميدها بين ليلة وضحاها.

كنائس الطفولة

عاصمة القضاء والقرى الأخرى كانت على موعدٍ مع حزنٍ كبير يوم الجمعة قبل أن تعود أجراس الكنائس لتعلن القيامة ولتكشح شمسُ الأحد بعد مطر الجمعة. في تلك الليالي الثلاث توجّه المؤمنون الى كنائس المنطقة، استجابوا لنداء الأجراس بعدما اشتهى الكثيرون من المغتربين أداء صلاتهم في أرضهم، في كنيسة طفولتهم القديمة الباقية على قِدمها أو المرممة أو المبنية حديثاً.

المهجرون… عنصر جديد

كيلومترات معدودة نحو بعض القرى الجنوبية في قضاءي النبطية وصور. اللوحة نفسها، الزحمة ذاتُها، الحديثُ عينُه. هناك عمرت القرى بناسها العائدين موقتاً وبأولئك المهجّرين الذين اقتحموا قسرًا لا طوعًا عناصر هذا العام، فأضفى وجودُهم زحمة أخرى لم تتوقعها تلك القرى النائية، حتى بات من السهل على العين أن ترصد طابورًا من السيارات أمام المنزل الواحد. فيما لم يتوانَ بعضهم الآتي من ساحل العاج والبحرين ومصر وسواها عن إحضار الخادمات العاملات لديه ليعيّدن معه وسط فرح التمام شمل العائلة مجددًا، تمامًا كما شاطرنه الأوضاع الأمنية المأزومة في بلاد الثورات وحرب الشوارع.

"إحذر ألغام"

هناك في قرى ميس الجبل وقعقعية الجسر ووادي الحجير وزوطر، لم تخفِ بسمات الثغور قلق العيون وشخوصها نحو جبالٍ وبساتين عانت ما عانته حتى ترسّخت جملة "إحذر ألغام" في صدر ترابها. عبارةٌ لم تكن لتثني الكثيرين في وادي الحجير عن التمتع بشمس الأحد وربيع المنطقة، فافترش بعضهم جهةً تأكد أنها آمنة، فيما كانت الأغنام تسرح خلفهم بلا عطلةٍ أو استراحة.

ذاكرةٌ قاتمة

أحاديث الفصح والعطلة والسلام والكلام وعناقات القاطن للعائد لم تكن كفيلة بنزع تلك الصورة الراسخة في أذهان تاركي المكان. فما إن تطأ أقدامهم الأشبار الأولى من قراهم الجنوبية، حتى يعلو شفاههم سؤالٌ لا ثاني له: "في شي بالجنوب؟ في حرب؟ قولك هالشي بينعكس علينا؟"…

ذاك الهاجس لم يفارق مخيّلتهم الطفولية التي تغذّت من قنابل الاجتياح وشبّت على أصوات زمامير الخطر وعتمة الملاجئ. ومتى غاب الحديث عن حربٍ مرتقبةٍ، تتوافد الأسئلة على الآتي من بيروت ليقينٍ أو لظنٍ من الأهالي القاطنين بأن من يعايش المعضلة الأمنية في العاصمة مختلفٌ عمن يعايشها من بعيد من خلال الشاشة الصغيرة، أو من خلال المحطات الفضائيّة. أما من كان الوسواس في رأسه أقوى من أيّ وقائع أخرى، فهاتف أقرباءه متمنيًا عليهم عدم الحضور الى لبنان خوفاً من تكرار تجربة تموز 2006 التي كان ضحيتها عددٌ كبيرٌ من المغتربين العائدين لقضاء عطلة الصيف في ربوع قراهم.

نادرًا ما تشعر قرى الجنوب بنبضٍ يشبه خليّة النحل. ونادرًا ما تمحو ذاكرة تلك القرى أحداثاً قاتمة أطالت سنوات الاجتياح حفرها في صخورها وعلى صدور ناسها الصامدين.

في العطلة الأخيرة، اختلفت اللوحة نسبيًا فحلّت على تلك القرى كنسيم هادئ يكسر حدّة الشتاء من دون أن يمحوَه. في تلك الأيام الأربعة حضن الجنوب حشدًا من أهله لم يحضنه يومًا، لا سيّما مع عودة الهدوء الأمني الى ربوعه، وتزامن الفصح مع ربيعٍ نظيفٍ وحالم، وتضاعف أعداد القاطنين بُعيْد تهجير عددٍ من اللبنانيين كانت للجنوبيين منه حصّة الأسد.

جملة متغيّراتٍ لم تمنع ربيع الجنوب من أن يزهرَ فصحًا وعيدًا زاوجهما بخفر قلق لم يكن في أي لحظةٍ وليد ساعته.
 

السابق
مركز دراسات الوحدة العربية يكرم محمد عابد الجابري في بيروت
التالي
خريطة “الهلوسة” الرخيصة والآمنة في لبنان