النبطية: ما بعد بعد الخمر

شكل قرار بلدية النبطية إقفال محلات بيع الخمور في المدينة صدمة قوية لكثيرين من أبنائها. حتى المناطق المجاورة نظرت بعين الريبة الى ما حدث هناك. ومن بين التحليلات وصف النبطية على أنها تتحول إلى "مدينة إيرانية" نتيجة "سيطرة الأحزاب الحاكمة فيها على قرار المواطنين المستقلين"، حتى على "رأي" الطائفة المسيحية الموجودة فيها.

هنا كانت المشكلة ما تزال تدور حول حلقة مفرغة لم تنظر الى الأسباب التي أوجبت هذا القرار.

الواحدة ليلا، صوت الصراخ يرتفع قرب منزلي، الساحة تشهد عراكا بين مجموعة من الشبان، لم يتضح الموضوع بعد وصول الإسعاف، وبالتأكيد أن جرحى يتم نقلهم. في الصباح تبين أن أحد الجيران عرف أن إبنه ( 17 عاما) يسهر ورفاقه ويشربون الخمور، وكان الموقف صادما للوالد، الذي حاول جاهدا إعادة إبنه إلى المنزل فلم يفلح، إلا بعد عراك مع الموجودين من الشباب.

في الفترة نفسها تقريبا، طلب مني أحد الشباب، وعمره 16 عاما، إستشارة. علم بالصدفة، وهو مع أحد رفاقه، أنهم يتعاطون المخدرات. في البدء كان يظن أن الجلوس في حرش علي الطاهر ليلا هو فقط "تغيير جوّ"، ويصف ذلك بالقول: ""فكرت قصة مشروب"، ليكتشف لاحقا أنه يجلس بين شبكة من متعاطي المخدرات من أبناء المنطقة.

الإستشارة التي طلبها كانت لأن رفاقه هؤلاء تعرّضوا له أكثر من مرة وهدّدوه بالأذية إذا لم يدفع لهم مبلغا ماليا كضمان عن أنه لن يبلّغ عنهم. الجديد في الفكرة أن هؤلاء معظمهم لم يتجاوز العشرين من عمره.

أعود إلى منزلي، حيث أجلس لأقرأ على الشرفة صيفا. وتقريبا كل ليلة عند الساعة الواحدة او الثانية ليلا، يمر موكب من الشباب "السكرانين"، وصوت الموسيقى والغناء يندلع من سياراتهم بارتفاع حادّ. ةإذا قرروا التوقف والنزول من السيارات، يمكن المنطقة كلّها أن تسمع السباب والشتائم والألفاظهم المسيئة تتطاير من أفواههم، أو يروحون يسرقون بعض صحارى البطيخ والشمام على جانبي الطريق الرئيسية.

هذه بعض من مشاهداتي الشخصية، التي يشبهها ما حصل في بلدة كفرمان بعد قرار رئيس بلديتها إقفال العديد من مقاهي الأنترنت في البلدة.

صحيح أنّ ما رويته يحكي فوضى يعيشها شبان كثر في النبطية، كما في غيرها من مدة الجنوب ولبنان والشرق الأوسط والعالم كلّه. وهذه الفوضى ليست وليدة اليوم، وقرار بلدية النبطية إقفال محلات بيع الخمور، الثلاثة، كان صادما للجميع. خصوصا إنّ مدينة النبطية كانت و ما تزال مدينة الإنفتاح والحرية وتجسّد بقداسة مساجدها وكنائسها تعايشاً تاريخياً تقليديا بين المسلمين والمسيحيين. المسيحيون الذين لا يمكن منعهم من بيع الخمر ولا من شرائه ولا من شربه.

أما الفوضى الحاصلة ليلا، أحيانا، فهي بالطبع تجد أسبابها في مكان آخر غير متاجر بيع الخمور، بالتأكيد. ربما تكون الأسباب أكثر خطورة، في ظلّ ما يعيشه الشابب النبطاني من حرمان ثقافي وقمع أسري.

فبعد السؤال يتبين أن معظم هؤلاء الشباب يهربون من أسرهم، ليسهروا خارجا، ولكن ماذا يوجد في هذا "الخارج"؟ لا سينما لا مسارح، لا دور ثقافية، ولا نشاطات فكرية أو صالونات، والنوادي الرياضية خاصة وإشتراكها الشهري يفوق الأربعين دولارا لشباب عاطل عن العمل وعن المال بالطبع.

المشكلة الحاصلة تتعدى قرار إقفال محلات الخمور، والدخول في نظريات قطع أرزاق الناس، أو قمع الرأي اللآخر، وما يثار حاليا من تحليلات، يبعدنا قليلا عن حقيقة ما يجري.

على سبيل المثال، وهو مثال مضحك مبكٍ، تنصح إحدى الجارات في كفرمان، تنصح جارتها، غير المحجبة: "بكرا ممكن يرشوك بالآسيد، لأنك غير محجبة". وهذه عيّنة عما يراد "تعميمه" في النبطية ومحيطها، وغدا ربما في صور وغيرها.

ربما الأجدر البحث عن حلول لأزمات الشباب المتوجّه نحو الفوضى أيا كانت. فالبلدية التي منعت بيع الخمور ماذا تؤمن لمن تدّعي أنّها تريد مصلحتها؟ والآن، بعدما أقفلت محلات بيع الخمور: هل عمّت المثالية الأخلاقية مجتمعنا؟ هل التزم الشبان منازلهم؟ وبدأ كل منهم يطالع كتابا؟ هل توقف ضجيجهم ليلا؟ وكزدورة السبت التي لا تنتهي قبل الخامسة فجرا؟ وهل باتوا يذهبون صباحا إلى الحديقة العامة التي تفتحها البلدية باكرا لهولاء؟

والسؤال الأكبر: هل توقف شارب الخمر عن شربه حين أقفلت المتاجر؟ أم بات المشوار أبعد ليشتروا من قرية أخرى أو بلدة مجاورة؟

المسألة أبعد من الخمر. ثمة من يريد زيادة الخطوط الحمراء، في زمن سقوط الخطوط؟

السابق
نصائح تركيا إلى النظام السوري!
التالي
اعتبارات محلية وخارجية