كيف سلبني نصري الصايغ بيروت

لم أكمل حتى الآن قراءة كتاب "القاتل إن حكى"، للصحافي اللبناني نصري الصايغ. حتى أنني لم أتجاوز قراءة نصف صفحاته. ومع ذلك فإنّ صدمات متتالية شلّت خلايا دماغي عن متابعة عملها، وأرهقت ذاكرتي عن معرفة ما أقرأ. كما لو أنني أحاول الهرب مجدد إلى جمهورية أفلطون حيث أعيش. فغالبا ما يكون الهرب عندي نوعا من تخفيف وقع المأساة. كيف لا، ويحكي الكتاب بلسان صاحبه، نوعا مما يتوقع من كلام عن مجرمي الحرب في لبنان، وليست أي حرب، بل هي تلك الأهلية!

في كل مرة أزور بيروت، أودعها بنظرة جديدة، تخترق الأرصفة، وتبتعد خلف المباني، وتودع البحر الهادئ بشغف وحب جميل. في كل مرة أصل إلى بيروت أشعر أنني لا أشبع منها، من ثقافتها، من حضارتها، من أناقتها، من موسيقاها، ومن دور السينما فيها، من مسارحها، من مؤتمراتها ومن كل ما نحرم منه نحن الجنوبيين.

بيروت هي الحلم الذي أعشق، هذي العروس المتلألئة بأضوائها ليلا، بين رائحة البحر، وصوت أمواجه الهادرة، وبين ضجيج أناسها، الذين لا يعرفون النوم، لكثرة ذهابهم وإيابهم، وكثرة تعلقهم بالحياة ولحظاتها المتسارعة.

عندما أذهب إلى بيروت، أرى المسافة بعيدة، أشتاقها مساء، وأسارع إليها صباحا، وهكذا أنا أتسابق مع الوقت في محاولة لامتصاص كل ما فيها من ثقافة، وكل ما فيّ من براءة الجنوب.

بيروت منذ يومين لم تعد هي هي: صدمات متتالية، أقرأها، أحسها، أشعرها، ألمسها، أعيد قراءتها، أكتبها، وأعيش معها مجددا. بيروت التي يتكلم عنها نصري الصايغ في كتابه: أي بيروت هي؟

هذه الحقيقة المؤلمة التي آثرت ألا أعرفها من أحاديث الناس، بيروت التي أهرب منها عندما يكون الحديث عن الحرب الأهلية، لئلا تتغير نظرتي إلى الآخرين، ولئلا أصبح مثلهم، أصدر أحكاما مسبقة.

حتى الآن لا أصدق أن هذه بيروت التي لم يمض على عارها ثلاثون عاما. لا أصدق أن هذه بيروت التي تغرق بدماء أبنائها: "بيروت مقبرة جماعية كبيرة، بحر بيروت من دم، قاع بيروت من أجساد، ضمير بيروت من وباء وعفن"، يقول الصايغ، فأخبروني: هل تكون هذي بيروت التي أحلم؟

أمعنت وقرأت الصفحات مرات عدة. أعدت التعابير، منها أزعجني، منها آلمني، ومنها أوجعني، وترك أثره جرحا أذكره كلما شاهدت فيلما عن الحرب الأهلية، وتحديدا فيلم "شتي يا دني" الأخير.

فبين مثالية بيروت ومثالية عنوان هذا الفيلم، لحظات من العذاب والمعاناة والمأساة، لا أعلم كيف استطاع مثقف مثل الصايغ أن يخطها قلمه، أو كيف استطاعت بيان نويهض أن تحكي أحوال الضحايا: "ضحايا المجازر لا يقتلون فقط يوم يقتلون. تلك هي المرة الأولى. إنهم يقتلون في كل مرة تعجز فيها الأصوات الحرة عن الجهر بالحق والحقيقة، وعن إدانة القتلة، وتلك هي المأساة الكبرى، مأساة الضحايا الأحياء، الذين يحملون في ذاكرتهم وفي وجدانهم وفي عيونهم، رسالة ضحاياهم الراحلين".

غالبا ما أغلق عينيّ أمام مشاهد الرعب، أضع يدي على أذنيّ كي لا أسمع صوت الألم أو الأنين أو العذاب. مشهد وحيد يمرّ في فيلم "شتي يا دني"  يروي نموذجا مصغرا من العذاب والعنف.

إستطعت أن أغيّب نظري وسمعي للحظات، ومجددا أعود للمتابعة، لكني الآن لا أستطيع أن أغلق عينيّ أمام هذي الكلمات، أو أن أسبق السطور لأعرف أن الإنسان غير الذي أعرفه، وأن درجات الألم غير التي أدركها في وعيي، وأن الحياة ليست دائما كما تبدوعليه.

هناك وجه مخفي، ضائع وقد يكون مشوّها. إذا أي قناع يلبسه هؤلاء الوحوش، الذين ما زالوا ينظرون الى البحر في بيروت، يتأملون الشفق ويزرعون الياسمين على مقاهي الروشة والمنارة؟ أي قناع يستطيع أن يخفي صورة الوحوش الحقيقية التي صاروها؟

الآن ازدادت المسافة بيني وبينها. لم أعرف ان وجهها المشرق، يخبّىء في ملامحه العذبة قلبا مثقلا بالجراح، بالدماء، بالجثث. لم أعرف أن رقصها كان على موسيقى تأوهات المعذبين، وأقدام القتلة تركل رقاب الموتى، وتشرب الشامبانيا، وتحتفل بالمقتلة.

بيروت حتى الآن أخاف أن أغمض عينيّ عنكِ، لأنني لا أستطيع أن أتقبل صورتك الجديدة. ولم أعرف كيف استطاع الصايغ بشفافية كلماته أن يروي هذه القصص، التي يعترف في كل مرة أنها أجزاء من الحقيقة.

أتساءل: من قرأ هذه الأجزاء؟ وكيف ترجم مواجعه الإنسانية منها؟

لا أريد ان أقرأ لجوزيف سعادة كتاب "السبت الأسود"، ولا أريد اليوم أن أكمل قراءتي لـ" القاتل إن حكى"، ولا أعرف إن كنت أتحمل مشهدا لزعيم أو سياسي يقف أمامنا ويعتذر من كل هؤلاء، وهل يجدي بعد الإعتذار؟ بعدما أثقلوا ذاكرتك يا بيروت بالآلام والعذابات، وأكدوا أن الوحش القاطن فيك، يثور في أي لحظة. وهل يجدي الإعتذار من تلك الأمهات؟

كلمة واحدة إلى نصري صايغ: كم تحملت عندما ما كتبت هذي الكلمات؟ كم تألمت عندما راجعتها؟ ونقّحتها؟ وأرسلتها إلى الطباعة؟ ووزعتها على المحبين؟

أوَلَم تعرف أنك أقدر منهم على الألم وتحمل الأوجاع؟ قد يكون كتابك الأول الذي أعطيته هذا الوقت الطويل للقراءة، لأن كل صفحة منه تحمل مواجع سنين، وتختصر الآلام الإنسانية في مشهد واحد.

بيروت: اليوم سأرتاح وأعود إليك مجددا لأفتش في حنايا الضجيج الذي تعيشين عن ذاك الصمت الذي آثره قلبك منذ فترة. وبعد أن أنتهي من قراءة الكتاب، لا أعرف إن كنت سأنتهي من إنسانيتي.

عندما أزور بيروت في المرة المقبلة، سأكون ضيفة ولن أشتاق.

 

 

السابق
“أمل” وبلدة حداثا شيعا علي ناصر في حضور بزي ممثلا بري
التالي
اختتام أسبوع المطالعة في بنت جبيل