اليوم استحقّت بيروت… عروبتها

كم هو صائب وملحّ ذاك السؤال الذي بدأ به أنطون سعاده مطارحاته: ما الذي جرّ على أمّتي هذا الويل؟ وكم يبدو آنياً، ومعمّماً، على غير «أمة» سعاده، أو على كل «المتّحدات» التي رسم نطاقها تجميعاً لمجتمعات حُمّلت تسميات كثيرة، قبل أن يثبت التاريخ أنها في النهاية، إسلامية؛
إذ ليست مصادفة، ولا تفصيلاً، أن تكون تلك المساحة الجغرافية والبشرية الهائلة، مرصودة لمثل هذا البؤس. بؤس قادر على استهلاك كل شيء، و«تبئيس» أي مَعلَم مغاير. في القاهرة، يكاد يصير وائل غنيم ورفاقه من «تروتسكيّي» الثورة على القيصر الذي أسقطوه. وقد يهربون لاحقاً الى البعيد المكسيكي الجديد، قبل أن تصحّ نبوءة تروتسكي مرة جديدة، يوم وصف «الرفيق جوزف»، بأنّه ممّن لا يوجّهون ضرباتهم إلى أفكار خصومهم، بل إلى رؤوسهم مباشرة. هو من سقط في منفاه القسري بضربة فأس على رأسه… تظاهرات ميدان التحرير الارتدادية، تبدو كأنّها حلقات ذكر أو تأبين، أو «أسبوعيّات» افتقاد لثورة كانت، قبل أن تسقط بين جماعة الجزمات الدائمين، وجماعة «الشريعة» القروسطيين…
في تونس، ثمّة من يريد الذهاب أبعد في اغتيال الثورة. قرروا أن لا لزوم لأبطالها وأيقوناتها. لا صنم جديداً للثورة، حتى لو كان اسمه محمد بو عزيزي. قرّرت محكمة ما أنه لم يصفع، وأن بيروقراطية بن علي وليلاه المذهبة، لم تمتهن كرامة المحترق للناس، ولم تجعل من قيده كل ثروته. غداً، قد يكتشف أصحاب الجزمات هناك أن الذي اتّقد قلبه لينير درباً لشعب، كان ممسوساً، أو مريضاً، أو مجنوناً، حتى لو انتصر.
في ليبيا، كل العبث العربي ومأساته ودوامته الأصيلة، ترتسم على تلك الطريق الترابية وسط الصحراء. صارت عدسة الكاميرا تعرف عدد حبّات رملها، بعدما صوّرتها ألف مرة، أو مليون، بعدد شهداء الثورة الخضراء والثورة المضادة، والعدم الناتج حتماً من مجموعهما. مرة يعبرها قائد الثورة المنشقّ عن فاتح سبتمبر، بعدما انتظر أربعين عاماً ليكتشف ديكتاتوريته. ومرة يعبرها أحد أبناء الفاتح بلواء من فخر الجماهيرية، التي توجتها ابنة القذافي ـــــ كأنها هباتيا ـــــ بقول سماوي: إن من لا يريد والدي لا يستحق الحياة. فيما ساركوزي يدرس السبيل الأفضل لترجمة كل هذا الرمل، حظوظاً فضلى له في مواجهة ابنة لوبن، فيما الأخيرة الطائرة في الاستطلاعات الشعبية، على متون أبناء موطنها المهاجرين من الأصول القريبة من ليبيا، الذين أنجزوا رفض الاندماج في أي عصر، والصمود عند قرن ابن تيمية وقرونه الجاهزة للبقر والبتر والرجم، في قلب أوروبا…
في البحرين، يعود الزمن مئتي عام ونيفاً إلى الوراء، إلى يوم التقى محمد بن عبد الوهاب بمحمد بن سعود، ويوم قال الأول للثاني عن تحالفهما: «الدم بالدم، والهدم بالهدم. فلعل الله يفتح عليك الفتوحات، وتنال من الغنائم ما يغنيك عن الخراج»… لا بل ذهب الزمان السعودي الوهابي بالبحرين أبعد مما كان قبل أكثر من قرنين. فلم تعد المسألة سجالاً حول بناء القبور ومراقد الأنبياء والأولياء، بل بلغت المساجد والحسينيات، بما فيها ومن فيها. تصحير حتى للصحراء. ووأد لأي بنت، فكيف إذا كانت الثورة من بنات أفكار الحرية والحياة.
أما في سوريا، فالزمن على قلق. الخبز والحرية والاستقرار، مكوّنات باتت كأنها متناقضة، لا تقاطع بينها، فيما لم يقنع بشار الأسد صناع الشرق الأوسط الجديد، بحداثته وعصرنته.
كانت لا تزال هناك بيروت. وحدها وسط هذا المشهد البائس. كانت باسمة لدهرها، رغم كل تقلّباته. وكانت تعرف فعلاً فرح الثورة، وطعم المقاومة. كانت تجمع بينهما في مسافة أمتار. في الساحة هنا، كانت ثورة فعلاً، صنعتها عيون في مواجهة مخرز جيش سوري. وفي الضاحية هناك، كانت مقاومة فعلاً، نسجتها دماء كسرت كل بطش الإسرائيلي وعهره وصلفه والاحتلال. ومضت الأيام. كانت بيروت خلالها تحلم بعرس الثورة والمقاومة. بتزاوجهما، كما لم يشهد تاريخ من قبل. لكن أحدهم قرر أن مصلحته تقضي إلباس ثورة الساحة عباءة حاكم من قبيلة الأوتوقراطية والتيوقراطية، معطوفتين على شره الثروة لا الثورة… أنزل العباءة والصورة على عيون الساحة وأفواهها حتى اختنقت. فيما خرجت هناك زمرة من الناس، قررت صرف رصيد المقاومة والتحرير والصمود، على تخشيبة مخالفة. هنا زعيم يهدر الثورة. هناك ناس يطعنون مقاومتهم. في المحصلة، صارت بيروت مستحقة لعروبتها، متّجهة صوب محيطها بخطى سريعة، كأنها الهرولة، كأنها السقوط الحر.
ما الذي جرّ على كل تلك العواصم هذا الويل؟ قد لا تكفي ويلات جبران للإجابة، وخصوصاً في زمن التكفير والتخوين والرجم والدم.

السابق
الديار : يوم التظاهر في طرابلس مرّ بهدوء
التالي
الجمهورية : جنبلاط في دمشق