لبنان والعروبة والأقلّيات

يفشل اللبنانيون مجدّداً. العالم العربي يتغيّر من حولهم. بدأت مرحلة ثوريّة ثمّ تحوّلت في بعض الدول إلى نزاعات أهليّة، لكنّ الثابت أنّ المنطقة تشهد مرحلة ستكون فيها الحرية مطلباً رئيسياً، وستحمل تطوّرات عارمة على مستوى أدوار الدول وأدائها، لكن ليس في لبنان.

في أحد أوجه الثورات في المنطقة، رفض حكم الأقلية للأكثرية، سواء كانت هذه الأقلية حزباً أو جهة أو طائفة أو عائلة، وهو ما حصل ويحصل في مصر وتونس واليمن وليبيا والبحرين وسوريا. بات حكم الجهة الواحدة صعباً، ولم تحرّك جهة واحدة مسار الثورات والجمهور. وهو ما يفترض أن ينتج أيضاً أنظمة تشبه هذه الثورات وتعبّر عن التعددية فيها، رغم أنّ هذا صراع آخر.

أما في لبنان، عدا عن الرغبة الشديدة بتقليد كل ما يدور حولنا في الشرق أو الغرب، فإن البلاد تتجه إلى فقدان دورها في المحيط، وفقدان ما يبرر «تمايزاً» كانت تتغنّى به. وتتجه البلاد، عبر تكرار أزماتها، الى الهامش أكثر فأكثر والتحول إلى عبء على دول المحيط العربي، وستكون في يوم قريب مجرد نظام قديم يحصل على بعض التعاطف، لكن دون أي مكانة، وستفقد صفتها كدولة ديموقراطية الى هذا الحد أو ذاك بين دول محكومة بقبضات أمنيّة.
كان بإمكان لبنان مجاراة ما يحصل من حوله لو أقدمت بعض قواه السياسية على تعديلات في خطابها وتوجهاتها، والحديث هو عن القوى السياسية التي تحمل طابعاً عروبياً أو عروبيّاً ـــــ إسلامياً، فبدل التشدّق بالعروبة الحديثة والمنفتحة، كان بإمكان هذه القوى أن تؤدي دوراً فاعلاً في تعديل طبيعة تشكيلتها المحلية، وتنطلق من كونها تشكيلات سنّية مذهبية لتصبح أكثر التصاقاً بالمفهوم العربي الذي يختمر الآن في باطن ثورات المنطقة العربية.

وسواء كان اسم القوى هذه، تيار المستقبل أو المعارضة السنية أو القوى الإسلامية الأخرى، فهي لم تستفد من المشهد العربي إلا بكلام مكرر وخطابات تضامن ومحاولات شد وجذب من منطلقات نزاع محلي، مفوِّتة فرصة لفهم ما يحصل وإيجاد دور في التحول الحالي.

كان يمكن اللبنانيين أن يؤدوا دوراً على مستوى تحويل بعض قواهم الى حركات تتمكّن من تكريس حكم الأكثرية للأقلية (والحديث ليس عن مذاهب أقلية بل عن كتل سياسية تمثّل أقلية)، وللمطالبة بإلغاء نظام التحاصص المذهبي، وكان من الممكن إيجاد تطمينات للأقليات الأخرى عبر رفع شعار العروبة لا شعار المذاهب، واحتضان الأغلبية للأقليات، بعدما أثبتت الأنظمة العربية في محيطنا استحالة إنتاج الأقليات لأنظمة حكم تطبق القوانين بالتساوي على مواطنيها وتستوعب الأكثريات.
وكان من الممكن أن تنتج العروبة الحديثة التي تختمر اليوم في باطن الثورات، في حال تبنّيها في لبنان، انعطافة في أزمات البلد، وتغييراً في خريطة الانقسام المذهبي ما بين سنّة وشيعة ومسلمين ومسيحيين، حيث انشدّ الشارع اللبناني بأغلبه نحو تأييد الثورات العربية.

لكن الواقع المحلي أنتج صورة تتّصف بالغرور والعنجهيّة، كما أفرز محاولة يائسة للاستفادة ممّا يحصل حولنا وتوظيفه في الزواريب الداخلية، بعدما كان قد استخدم عبارة «العروبة الحديثة» في انطلاقة ثورة الأرز لكسب تعاطف بعض أنظمة الخليج العربي ومصر (حينها) بصفتها تمثّل قبلة العروبة المنفتحة على الغرب.

واليوم يكتفي اللبنانيون العروبيون والإسلاميون بالتضامن مع ثورة في بلد ما خطابياً، وتأييد نظام آخر لفظياً. يقابلهم ثوار الأرز الذين يصمتون عن ثورات كأنها لم تكن، ويشدّون من أزر ثوّار آخرين، ويطلقون شعارات من عيار «نحن علّمنا المصريين الثورة في عام 2005»، أو «لبنان كان رائد الثورات العربية عبر ثورة الأرز»، علماً بأن أول ما يجيب عنه الثوار في مصر هو أن ثورة الأرز كانت نقل بندقية من كتف سورية الى كتف أميركية، للفئة الحاكمة نفسها في لبنان، كما أن مصر (بخصوصيّتها وحساسيّتها المحلية) لن تتعلّم من دولة صغيرة كلبنان إدارة شؤونها الداخلية وتغيير نظامها.

ومع إطلاق الحريات في بلد عربي مركزي كمصر، وفي دول أخرى، فإن الاقتصاد والإعلام والسياحة والاستثمارات المالية والحريات المدنية في لبنان لم تعد أكثر من مزحة، مقابل ما سيكون في المحيط العربي، أو على الأقل في دولة مركزية كمصر. وبدل أن تتّجه الدولة الأصغر، عبر قواها السالفة الذكر، الى استيعاب الزمن العربي الجديد، فإنّها ببساطة تحاول إظهار نفسها رائدة، وممارسة المزيد من الانعزال والتراجع في نظام حكمها وفي الدفاع عن تخلفه.

هذا لا يحصل إلا في لبنان.

السابق
رسم السياسة المقبلة للحكومة
التالي
البناء: تردّي الأوضاع الداخلية وضغط الظروف المحيطة يفرضان الإسراع في تشكيل الحكومة