حملة “أحب الحياة” في النبطية

بسرعة، ومن دون مقدّمات، ولكن بعد احتقان صامت، قرّر حزب الله ان يتخلى عن موقع الحياد والاستياء الصامت تجاه توسع رقعة الحرية الفردية في الجنوب، الى درجة باتت معها هذه الحرية تعبّر عن نفسها بنمط اجتماعي تطور خلال السنوات القليلة الماضية، ليصبح عرفا لم تعطه شرائح واسعة من المجتمع عنوانه الصحيح: I love Life، ربما لأن هذا العنوان استعملته قوى 14 آذار للتحذير من النموذج الاجتماعي والايديولوجي الشمولي، وبات هذا العنوان مكروها لصبغته السياسية الضيقة. ولكنه في الوقت نفسه طبّق من قبل هذه الشرائح الاجتماعية، من دون مغالاة، وبدأ يهدد الصورة التي يحاول حزب الله فرضها على المجتمع، وهي صورة نمطية لمجتمع لا وظيفة له الا المزيد من احداث التراكم في التعبئة الجهادية التي تلبس عنوان: لا صوت يعلو اجتماعيا وفكريا وسلوكيا وايديولوجيا على صوت المعركة.

ومَن يعرف الجنوب جيدا يلاحظ ان حزب الله مر بمراحل متناقضة في التعامل مع هذا الواقع، فالاطلالة الاولى للحزب حملت صورة متشددة استنسخت تجربة الثورة الاسلامية في ايران على نحو شبه متطابق، وحاولت تطبيقها بدءا من اللباس النسائي مرورا بمنع الخمر في الاماكن العامة وأماكن اللهو، وحتى في المنازل، وصولا الى الاحتكاك بمَن حاول المواجهة. هذا الاحتكاك الذي ادى الى اخراج معظم قوى اليسار من المنطقة واستهداف رموزها، بحيث أصبح الجنوب منطقة خالية من "العناصر غير المنضبطة"، أما في المرحلة الثانية، وهي التي شهدت انتقالا في اعلى رأس الهرم بقيادة حزب الله مع استلام السيد حسن نصرالله الامانة العامة، فقد تطور حزب الله في تعاطيه مع ظاهرة الحرية الاجتماعية، فتعايش مع مظاهرها ببراغماتية مدروسة هدفت الى عدم تنفير المجتمع عبر فرض النمط الديني المتشدد، فكان ان نمت ظاهرة الحريات الفردية وعبرت عن نفسها بانفتاح وصل الى حد انتشار المطاعم والملاهي واخيرا لا آخرا محال بيع الخمرة في القرى المسيحية الجنوبية ومن ثم في البلدات والمدن الشيعية، التي تعامل معها الحزب بأسلوب النصح لا الفرض، مستعملا التشدد والمونة لكبح ظاهرة الحرية الفردية مع المسلمين، ومتعمدا التساهل مع المسيحيين وعدم التدخل في كل ما يميز سلوكهم الاجتماعي في قراهم وبلداتهم.

غير أن الامس القريب وما شهده من تسارع في اسلوب الفرض باقفال المحال التي تبيع الخمرة في النبطية، وما فسّره بعضهم بالتضييق على المسيحيين في حرياتهم، لم يكن دقيقا، إذ إن المشكلة التي واجهت احد اصحاب المحال المسيحيين الذي يبيع الخمر في المدينة لم تكن بسبب انتمائه الديني. فحزب الله، وخصوصا منذ استلام السيد حسن نصرالله القيادة، لم يرتكب خطأ واحدا في التعامل مع مسيحيي الجنوب، لا بل على العكس فهو تعمّد استنفار كل طاقاته في مرحلة ما بعد الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب وما قبلها، للحفاظ على الوجود المسيحي. ويندر ان يسجل لعناصر او مؤيدين للحزب ارتكاب اية هفوة ذات ابعاد طائفية في هذا المجال.

الصورة اذاً تنبئ بأن قرار حصر اتساع الظاهرة الاجتماعية التي تؤمن بممارسة الحريات الفردية قد اتخذ، وهذا القرار لن يطبق على مسيحيي الجنوب، بل على المسلمين منهم الذين اختاروا طواعية ان ينتهجوا اسلوبا مغايرا في العيش.

واللافت في هذا المجال ان هذه الظاهرة قد اتسعت كثيرا الى درجة جعلت حزب الله الذي تردّد سابقا في مقاربتها مباشرة، الانتقال الى اعتماد اسلوب المواجهة وهذه المرة بالطريقة الكلاسيكية غير المباشرة، اي بطريقة تحريك "الأهالي" للضغط على البلدية واصحاب المحال لاقفالها بهدف الانتهاء من هذه الظاهرة ومنعها من ان تصبح امرا واقعا لا يمكن مواجهته.

وبغضّ النظر عن نتائج فرض توجه اجتماعي معين على الاهالي، فإن هذه الخطوة سوف تؤدي الى جملة نتائج لعل اولها عودة الجنوب مرة ثانية الى مرحلة الثمانينيات، وخصوصا ان الحزب لا يمثل في هذا النمط الاجتماعي اكثرية كبيرة.

والمفارقة التي يعرفها كثيرون ان جزءا لا يستهان به من جمهور المقاومة، يطمح الى توسيع هامش الحريات الفردية وليس العكس، وبالتالي فإن الدخول المباشر للحزب في مواجهة مع هذا الجمهور من بوابة الحد من الحرية الفردية لن يكون في مصلحته.

السابق
اسماعيل سكرية: استهداف سوريا تحت راية الاصلاح مرفوض
التالي
فلتان المشاعات :البناء يتحوّل الى دماء

حملة “أحب الحياة” في النبطية

بسرعة، ومن دون مقدّمات، ولكن بعد احتقان صامت، قرّر حزب الله ان يتخلى عن موقع الحياد والاستياء الصامت تجاه توسع رقعة الحرية الفردية في الجنوب، الى درجة باتت معها هذه الحرية تعبّر عن نفسها بنمط اجتماعي تطور خلال السنوات القليلة الماضية، ليصبح عرفا لم تعطه شرائح واسعة من المجتمع عنوانه الصحيح: I love Life، ربما لأن هذا العنوان استعملته قوى 14 آذار للتحذير من النموذج الاجتماعي والايديولوجي الشمولي، وبات هذا العنوان مكروها لصبغته السياسية الضيقة. ولكنه في الوقت نفسه طبّق من قبل هذه الشرائح الاجتماعية، من دون مغالاة، وبدأ يهدد الصورة التي يحاول حزب الله فرضها على المجتمع، وهي صورة نمطية لمجتمع لا وظيفة له الا المزيد من احداث التراكم في التعبئة الجهادية التي تلبس عنوان: لا صوت يعلو اجتماعيا وفكريا وسلوكيا وايديولوجيا على صوت المعركة.

ومَن يعرف الجنوب جيدا يلاحظ ان حزب الله مر بمراحل متناقضة في التعامل مع هذا الواقع، فالاطلالة الاولى للحزب حملت صورة متشددة استنسخت تجربة الثورة الاسلامية في ايران على نحو شبه متطابق، وحاولت تطبيقها بدءا من اللباس النسائي مرورا بمنع الخمر في الاماكن العامة وأماكن اللهو، وحتى في المنازل، وصولا الى الاحتكاك بمَن حاول المواجهة. هذا الاحتكاك الذي ادى الى اخراج معظم قوى اليسار من المنطقة واستهداف رموزها، بحيث أصبح الجنوب منطقة خالية من "العناصر غير المنضبطة"، أما في المرحلة الثانية، وهي التي شهدت انتقالا في اعلى رأس الهرم بقيادة حزب الله مع استلام السيد حسن نصرالله الامانة العامة، فقد تطور حزب الله في تعاطيه مع ظاهرة الحرية الاجتماعية، فتعايش مع مظاهرها ببراغماتية مدروسة هدفت الى عدم تنفير المجتمع عبر فرض النمط الديني المتشدد، فكان ان نمت ظاهرة الحريات الفردية وعبرت عن نفسها بانفتاح وصل الى حد انتشار المطاعم والملاهي واخيرا لا آخرا محال بيع الخمرة في القرى المسيحية الجنوبية ومن ثم في البلدات والمدن الشيعية، التي تعامل معها الحزب بأسلوب النصح لا الفرض، مستعملا التشدد والمونة لكبح ظاهرة الحرية الفردية مع المسلمين، ومتعمدا التساهل مع المسيحيين وعدم التدخل في كل ما يميز سلوكهم الاجتماعي في قراهم وبلداتهم.

غير أن الامس القريب وما شهده من تسارع في اسلوب الفرض باقفال المحال التي تبيع الخمرة في النبطية، وما فسّره بعضهم بالتضييق على المسيحيين في حرياتهم، لم يكن دقيقا، إذ إن المشكلة التي واجهت احد اصحاب المحال المسيحيين الذي يبيع الخمر في المدينة لم تكن بسبب انتمائه الديني. فحزب الله، وخصوصا منذ استلام السيد حسن نصرالله القيادة، لم يرتكب خطأ واحدا في التعامل مع مسيحيي الجنوب، لا بل على العكس فهو تعمّد استنفار كل طاقاته في مرحلة ما بعد الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب وما قبلها، للحفاظ على الوجود المسيحي. ويندر ان يسجل لعناصر او مؤيدين للحزب ارتكاب اية هفوة ذات ابعاد طائفية في هذا المجال.

الصورة اذاً تنبئ بأن قرار حصر اتساع الظاهرة الاجتماعية التي تؤمن بممارسة الحريات الفردية قد اتخذ، وهذا القرار لن يطبق على مسيحيي الجنوب، بل على المسلمين منهم الذين اختاروا طواعية ان ينتهجوا اسلوبا مغايرا في العيش.

واللافت في هذا المجال ان هذه الظاهرة قد اتسعت كثيرا الى درجة جعلت حزب الله الذي تردّد سابقا في مقاربتها مباشرة، الانتقال الى اعتماد اسلوب المواجهة وهذه المرة بالطريقة الكلاسيكية غير المباشرة، اي بطريقة تحريك "الأهالي" للضغط على البلدية واصحاب المحال لاقفالها بهدف الانتهاء من هذه الظاهرة ومنعها من ان تصبح امرا واقعا لا يمكن مواجهته.

وبغضّ النظر عن نتائج فرض توجه اجتماعي معين على الاهالي، فإن هذه الخطوة سوف تؤدي الى جملة نتائج لعل اولها عودة الجنوب مرة ثانية الى مرحلة الثمانينيات، وخصوصا ان الحزب لا يمثل في هذا النمط الاجتماعي اكثرية كبيرة.

والمفارقة التي يعرفها كثيرون ان جزءا لا يستهان به من جمهور المقاومة، يطمح الى توسيع هامش الحريات الفردية وليس العكس، وبالتالي فإن الدخول المباشر للحزب في مواجهة مع هذا الجمهور من بوابة الحد من الحرية الفردية لن يكون في مصلحته.

السابق
الجمهورية: احتمال توافق سليمان وعون على الداخلية ما زال ضعيفاً
التالي
كرم أمام المحكمة اليوم