المخيمات الفلسطينية في صور: بين ذهنية الدولة وتآمر “الأونروا”

شعوب العالم المختلفة لها معاناتها في الفقر والكوارث الطبيعية، وما إليها من مشكلات طبيعية تواجه المجتمعات الانسانية، لكن للشعب الفلسطيني معاناة مستقلة، فريدة من نوعها، ومتفردة في تفاصيلها، حيث ترى لكل الشعوب أوطانا طبيعية، إلا الشعب الفلسطيني فكتبت عليه المخيمات وطناً، وتضاعفت معاناته إلى حد لا يستغرب به أن يكون العالم كله قد اشترك في مؤامرة ضده.
في لبنان تحديداً، عندما تدخل الى المخيمات الفلسطينية وبالتحديد في منطقة صور تتضح الصورة جلية ويصبح الكلام على «لعنة» هذا الشعب غير مبالغ فيه.
البناء التقت أمين سر اللجان الشعبية في مخيمات الجنوب احسان جمال «أبو بشار» وعددا من أعضاء اللجنة الذين شرحوا حقيقة الأوضاع المعيشية في المخيمات، حيث تمثل هذه اللجان القيادة اليومية الميدانية وهي عبارة عن شبه بلديات داخل المخيمات.

خصوصية المعاناة
«أبو بشار» تحدث حول الوضع المعيشي في المخيمات بكل ميادينه الذي يعتبره غير منفصل عن الوضع العام في لبنان، لكنه وضع أشد صعوبة وحساسية، وذلك لأسباب لها علاقة بخصوصية الوضع الفلسطيني، الذي يحمل عقداً اجتماعية واقتصادية كبيرة وفي غاية الخطورة.

تشكل «الأونروا» وكالة غوث اللاجئين مصدر الدعم والمساندة الرئيسية للاجئ الفلسطيني في العالم العربي، وهي منظمة معنية بكل القضايا التي تخص وجود هؤلاء اللاجئين، والمشكلة تفاقمت بشكل خطير عندما بدأت خدماتها بعملية تقلص تدريجي، أصاب قطاع التعليم والتوظيف والصحة والاعمار ومختلف جوانب الحياة، ما شكل عبئاً مضافاً وعقدة كبيرة على معاناة أبناء المخيمات انطلاقاً من دورها الأساسي.

قطاع التعليم
على المستوى التعليمي والمهني، أشار «ابو بشار» الى الانقلاب الحاصل في طريقة التعاطي والقواعد التي كانت متبعة مسبقاً، اذ كان هناك معهد سبلين (وما زال) الذي يستقبل الطلاب المتخرجين من المدرسة للتخصص فيه وتتأمن لهم فرص العمل مباشرة بعد تخرجهم، عبر تعاقد «الأونروا» مع شركات في الدول الخليجية.

هذا في السابق، مع مرور الوقت وحتى الآن بدأت تتقلص اختصاصات المعهد شيئاً فشيئاً، وبذلك بدأ يفقد دوره الحيوي فلم يعد يملك الامكانية ذاتها في دعم الطلاب كما كان سابقاً، وتضاءلت فرص العمل ومساهمات «الأونروا» التي تُرجع اسبابه الى ضعف التمويل، لكن «ابو بشار» يؤكد أن الفلسطينيين «يرجعونه إلى قصد ادخال اليأس والاحباط الى المجتمع الفلسطيني».

وهناك مشكلة اضافية وهي سوق العمل في الدول الاوروبية الذي لم تعد لديه قدرة استيعاب للأعداد الهائلة كما في السابق، فنتج من ذلك صعوبات في سفر الطلاب الفلسطينيين وزيادة تكلفته وفقدان ضمانته، اي حتى مع خيار الهجرة لم يعد الأمر ممكناً أمام الشباب الفلسطيني، الذي بدوره أصبح ينتظر المساعدات والمنح، وإن كل ما يحصل للفلسطينيين يتحمل مسؤوليته المجتمع الدولي «هذا ما أكّده أبو بشار».

التعليم المجاني في مدارس «الأنروا» يستمر الى حين انتهاء المرحلة الثانوية، وبعد ذلك تقتصر المنح من الأونروا على 70 أو 80 منحة في السنة لآلاف الطلاب الفلسطينيين في جامعات لبنان «من بعدما أصبحت هذه الجامعات خيارهم الوحيد بعد تراجع دعم معهد سبلين».

مسؤولية لبنانية
يعتبر «أبو بشار» أن لبنان كونه الدولة المضيفة للاجئين يتحمل مسؤولية الالتفات إلى أوضاعهم «نحن نقوم بكل واجباتنا تجاه الدولة بكل ما يقتضيه القانون اللبناني، وبالمقابل لا تقوم الدولة تجاهنا بواجباتها ولا تتجاوب مع حقوقنا وتتعاطى مع المخيمات من زاوية أمنية وليس من زاوية اجتماعية».

حصار اجتماعي
عضو اللجنة الشعبية لمخيمات صور عبد كنعان تطرق الى هذه المسألة قائلاً: «هناك حصار وقيود مفروضة علينا، قيود وضعتها الدولة عزلت فيها الفلسطينيين عن التفاعل الطبيعي مع المجتمع، وإن علاقة الدولة مع المخيمات ليست رسمية، وإنما هي علاقة مصلحية».

واعتبر أن المطالبة بالحقوق المدنية والاجتماعية هي نتيجة حرمان الفلسطينيين من حق العمل والتملك والوراثة، ويذكر أنه في العام 2001 أصدرت الحكومة اللبنانية قانونا نص على عدم السماح بالتملك لأي شخص لا يملك هوية من دولة معترف بها. «والمقصود من هذا القانون نحن الفلسطينيين لأن دولتنا غير معترف بها ونملك هوية لاجىء». وعلى الدولة اللبنانية الغاء قانون المعاملة بالمثل للسبب نفسه (دولة غير معترف بها).
وركّز كنعان على الحرمان من حق العمل في المهن الحرة الذي له انعاكاسات سلبية على الفلسطينيين «حرمان يقتل الحافز والطموح عند الجيل الصاعد».
مطالب لم تتم الاستجابة لها لأن اعطاء حق العمل الى الفلسطيني (بإجازة عمل) اقتصر على مهن كنا نعمل بها قبل صدور هذا القرار وبقي مطلبنا الأساسي بتشريع المهن الحرة من دون استجابة.

«ممنوع أن نموت الأحد»!
كما تحدث ابو بشار عن اشكالية الحرمان من الضمان الصحي والاجتماعي، و حمّل الدولة اللبنانية مسؤولية هذا الحرمان غير المبرر وقال:»من يدعم حق العودة عليه أن يُساعد في تحسين وضعنا من أجل العودة»، لافتاً الى أن مساحة المخيّم هي نفسها منذ عام 1948 أي منذ تهجيرهم الى لبنان وحتى اليوم.
اذ إن هناك ستة أجيال تعاقبت في المكان والمساحة نفسه، عدا أنه لم يعد هناك مجال للاعمار، ما يضطر الشاب الفلسطيني الى شراء منزل خارج المخيم فيقف في وجهه قانون عدم التملك، فماذا يفعل وقتها؟ حتى أن ضيق المساحة خلق أزمة مقابر ويقول ساخراً من شدة المعاناة «ممنوع على الفلسطيني ان يموت يوم الأحد لأن المخابرات مقفلة وترتيبات دفنه تحتاج الى اذن».

ويضيف: «هذه القيود التي وضعتها الدولة اللبنانية على الفلسطينيين وهذا العزل المحصور في المخيمات والحرمان من الحقوق المدنية والاجتماعية، دليل مخاوف غير مبررة»، «لكن أقول وأؤكد أن حق العودة محفور في الوجدان والضمير والعقل، صحيح أن لبنان جميل لكن الأجمل حق العودة، مطالبنا هدفها تحسين أوضاعنا الاجتماعية والانسانية الى حين تحقق حق العودة وأي مطلب حقوق انسانية للغاية نفسها، ومع لبنان سنبقى نبحث عن كل آليات وسبل الحوار للوصول الى تفاهم يُنظم العلاقة فيما بيننا، نحن نضمن احترام القانون وسيادته للبنان وهم يحترمون الكرامة الانسانية للفلسطينيين».

أما عن الشائعات الأمنية المحيطة بمخيمات لبنان وخصوصاً في صور، فيؤكد المسؤولون الفلسطينيون، أنها شائعات مغرضة وخاطئة، ولا اساس لها من الصحة، وخير دليل على ذلك وجود مؤسسات حكومية داخله كالمستشفى الحكومي وشركة الكهرباء اللذان لم يتعرضا الى أي اساءة منذ نشأتهما.

فلسطيني و«غير فلسطيني»
ومن مشكلة المخيمات الى مشكلة التجمعات الفلسطينية التي تعاني أضعاف معاناة المخيمات، فـ«الأونروا» تعتبر الذين هم داخل المخيمات (فلسطينيين) وكل الذين خارجها وبمن فيهم تلك التجمعات (غير فلسطينيين) ما يعني أن المساعدات لا تشملهم وبشكل أدق لا تأخذ الخدمات كاملة، ويقول ابو ماهر: «ونحن في كل لقاءاتنا معها نطالب أن تُعامل التجمعات كالمخيمات لأن من المفترض أن تكون مسؤولة عن تقديم خدمات الى الفلسطينيين أينما وُجدوا».
كما يذكر أن «الأونروا» قامت بالتعاون مع الجامعة الاميركية في بيروت في صيف 2010 بإجراء مسح اقتصادي واجتماعي للاجئين الفلسطينيين في لبنان شمل عيّنة تمثيلية من 2600 أسرة. ويهدف هذا المسح الذي قام الاتحاد الاوروبي بتمويله الى تحديد الظروف المعيشية للاجئين الفلسطينيين في لبنان. ومن خلال هذه الدراسة تبين لهم الوضع المأساوي للفلسطينيين.

منازل مهترئة
ويعتبر «ابو بشار» أن أبرز القضايا التي عليهم البدء بها الاسراع في عملية الاعمار وترميم المنازل الآيلة الى السقوط، عندنا أكثر من الف منزل يحتاج الى ترميم في المخيمات والتجمعات في منطقة صور من المفترض أن تباشر بها، لكن المباشرة رهن بالتمويل. والى الآن توفر من التمويل مبلغ يكفي فقط 700 منزل في كل مخيمات لبنان.. فقط.

مصائب بالجملة
وفي السياق نفسه وجّه أبو بشار نداء في ما خص تجمع جل البحر حيث إن هناك عشر عائلات مشردة الى الآن جراء العاصفة الأخيرة، هذا إلى جانب
مشكلة مخيم برج الشمالي الصحية التي توسع انتشارها أخيراً، هو مرض (التلاسيميا) والذي صنفته «الاونروا» كمرض اجتماعي لأنه نتيجة زواج القربى والى الآن غير راضية بالاعتراف به كمرض طبي حقيقي».
وحول أزمة النفايات في منطقة صور يقول:«نحن ضحية هذه المشكلة والأكثر تأثراً بها، فبعد اقفال المكب أصبحنا نرمي في أرض المخيّم، وفي هذه المشكلة نُحمّل الدولة اللبنانية والاونروا المسؤولية معاً».
هذا إضافة إلى أزمة أسلاك الكهرباء وما سببته من مخاطر نتيجة وجود الأسلاك النحاسية بالقرب من مناطق التواجد السكاني والتي ذهب ضحيتها عدة أفراد في مخيّم الرشيدية ولم يتحرك أحد، لكن اللجنة الشعبية حاولت تطويق الأزمة ويقول المهندس مصباح معروف «بعد معاناة طويلة لم تعد لدينا القدرة على انتظار أحد ليحل المشكلة، فقمنا نحن بتغييرها الى كابلات ألمينيوم، اجراء تم بجهد محلي وكلّف أموالا كثيرة».
اما مخيم البص الذي كان ينعم بالكهرباء 24 ساعة فتم الغاؤه منذ مدة واصبح يُعاني من انقطاعها.

«يا ليتنا ما خرجنا»
ولكن بعيداً من الواقع والحاضر والمستقبل، هناك من يزال يعيش «حلم» العودة الى الوطن إلى الماضي الذي يرى فيه اجابات الحاضر والمستقبل.
أحمد سليمان محمد (أبو العبد)، فلسطيني يبلغ من العمر 75 عاماً، عاش منها أحد عشر عاماً في فلسطين قبل أن يأتي الى لبنان،»جئنا الى لبنان على أساس أسبوع واحد ونعود الى فلسطين، امتد الأسبوع الى 63 عاماً، خرجنا يوم 15 ايار 1948 ويا ليتنا لم نخرج».

ابو العبد يحمل بين طيات ذاكرته كل الصور التي شهدها في فلسطين، ويقول: «نحن من بلدة مغار الخيط قضاء صفد، كنا نملك أراضي واسعة ولكل أخ أكثر من 150 دونما وعددنا ثمانية اخوة، كان والدي يعمل في الزراعة وكنا نساعده، هذا ما أذكره من الحياة الطبيعية اليومية عن قريتنا وطفولتنا، لأن ذاكرتي تمتلئ غضباً وروايات عن قصص الثوار والمقاومة».
لا ينسى ابو العبد عبارة الملك عبدالله الشهيرة «نعتبر ان الفلسطيني أُصيب بطاعون ونسلم فلسطين الى اليهود». ومن هنا يدخل إلى مأساة الفلسطينين المضاعفة، والذين شهدوا فظاعة الاحتلال البريطاني الذي سبق الاحتلال اليهودي، إلى جانب المؤامرات العربية التي حيكت ضد الفلسطينيين، يذكر»(دقنا الأمرين منن) حيث كان القائد العام الملك عبدالله الذي اتفق مع الانكليز وخدعوا الفلسطينيين بجيش الانقاذ العربي المكون من حثالة الشعوب العربية بقيادة فوزي القاوقجي، مجهزة للهزيمة مسبقاً».
ويذكر كيف خسر اليهود كل المعارك أمام الثوار، معركة صفد، عين الزيتون، الصفصاف، علما، فارة، المالكية، صلحا وغيرها من المناطق، ويذكر كيف خدع جيش الانقاذ الثوار وسلم المناطق الى اليهود وكيف أرسل لهم (خرطوش يُفجّر البندقية بهم).

تطهير عرقي
يذكر المجازر والقتل ويذكر كيف سقطت بلادهم ولم يبقَ فيها حجر على حجر، «وقتها جئنا الى علما ومنها الى مارون الراس، على أساس أسبوع واحد ويا ليتنا متنا هناك ولم نخرج، حتى لو بقينا تحت حكم اليهود واستشهد العديد منّا وكان من الأفضل بقاؤنا في فلسطين، مع احترامي الى كل البلاد، ساعة في فلسطين تساوي حياة العالم العربي كلها».
أبو العبد لا يتعب من الكلام من الاستذكار والوصف للحجارة الموجودة أمام منزله في فلسطين، ويتحسر على مصير بلدته اليوم وقد طهرت عرقياً، على غرار معظم القرى، وحل مكانهم المستوطنون «البرص»، ويقول أبو العبد «عندما جئنا الى لبنان، وعن غير قصد وجدنا الأوراق العقارية التي تُثبت ملكيتنا لارضنا في فلسطين ضمن أمتعتنا التي جلبناها معنا، وعندما طلب أحدهم منه أن يبيعه ارضه أجاب حدا ببيع شرفو ودمو وعرضو؟».

عاش أبو العبد وأهله في لبنان على قوت الأمل، أمل بالعودة والتحرير، ولا ينسى ما قاله والده قبل وفاته «يا ريت برجع ع فلسطين، والله لما نرجع لنام سنة كاملة تحت الزيتونة ليل نهار»، أمنية يتمناها دائماً بعد والده فهي سيدة أحلامه ويُربّي أولاده على حبها الى حين العودة التي تبقى الحلم الأبدي.

السابق
المؤتمر التربوي الثالث في النبطية
التالي
الصيغة الوزارية المحتملة