القتل الصهيوني والقانون الدولي

تاريخ القتل الصهيوني في الاراضي الفلسطينية المحتلة يتسم بأسبقيته الزمنية على نشوء الكيان الإسرائيلي، حتى يمكن القول ان ممارسات القتل الجماعي والتنكيل والتشريد الذي مارسته العصابات الصهيونية (الهاغانا) بحق الفلسطينيين قبيل عام 1948 هي الأصل في تشكيل هذا الكيان ورسم ملامحه اللاحقة. هذا علماً أن الدعم الدولي المهول وغير المسبوق في آن، لعب دوراً لا يستهان به في اكساب هذا الكيان مزيداً من أسباب القوة من ناحية، وفي تعزيز شروط وجوده وديمومته وتالياً رسوخه المادي من ناحية ثانية.

فمنذ اعلان وعد بلفور في 2 تشرين الثاني 1917، غداة النص الذي أرسله وزير خارجية بريطانيا جيمس ارثر بلفور الى الزعيم الصهيوني اللورد روتشيلد، والذي تضمن وعداً من ملك بريطانيا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بدأت الارتكابات الصهيونية بحق الفلسطينيين تتكثف، بالتناسب مع ازدياد معدلات الهجرة اليهودية المطردة الى أراضي فلسطين التاريخية (أرض الميعاد وفق المصطلح الديني اليهودي). وتحقق ذلك كله على الرغم من كل الثورات التي قام بها الفلسطينيون (ثورة يافا، وثورة البراق، والثورة الفلسطينية الكبرى)، في محاولة لوضع حد لموجات الهجرة اليهودية المتسارعة الوتيرة، لاسيما من بلدان اوروبا الشرقية. وقد ترافقت الهجرات، بطبيعة الحال، مع استيلاء متماد على أراضي الفلسطينيين. وعلى الرغم أيضاً من محاولات سلطة الانتداب البريطاني على فلسطين تحديد «سقف» الهجرة اليهودية المتنامية، مسايرة لجو عربي وفلسطيني ساخط، أوحى بامكان تهديد مصالح بريطانيا الحيوية في المنطقة. وهو ما حدا ببريطانيا الى عقد مؤتمر في لندن في 1936 جمعها بوفود من الدول العربية وفلسطين وبوفد صهيوني، انما كل على حدة. وتلا المؤتمر اصدار الكتاب الأبيض في 1939 والذي حدد الهجرة اليهودية بخمسة وسبعين الف مهاجر خلال الخمس سنوات التالية، واقامة حكم ذاتي للفلسطينيين خلال عشر سنوات، وتمسك الكتاب أيضاً بمبدأ وعد بلفور. بيد ان كلاً من الفلسطينيين واليهود رفض الكتاب. لينتقل الصراع مذاك الى مرحلة جديدة ستدمغ وقائعها وتطوراتها خارطة المنطقة والعالم لما ينوف عن ستة عقود متتالية، من دون أن ترتسم حتى الآن ملامح حل عادل في الأفق..

اللوحة القاتمة!
أحد اكثر المواضيع اثارة للجدل في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني، الذي سلك مؤخراً مساراً انحدارياً يشكل مرآة عاكسة لأوضاع المنطقة المتهالكة حيث باتت الأمانة للحقيقة التاريخية تقتضي وصفه بالصراع الفلسطيني- الاسرائيلي، هو «موضوع القانون الدولي وسياسة الاغتيالات الاسرائيلية خارج نطاق القانون». والعنوان الأخير هو موضوع الورقة التي تقدمت بها الباحثة فيرا جولاند دباس والتي نشرت في الكتاب الصادر عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات- بيروت (تحرير د. عبد الرحمن محمد علي)، والذي يحمل عنوان: اسرائيل والقانون الدولي. والكتاب عبارة عن أوراق بحثية لعشرين كاتبا وكاتبة في الموضوع ذاته. وتحتل الورقة – مدار اهتمامنا – الفصل التاسع من المؤلف المذكور.

وتحاول الباحثة، قبل الدخول المباشر في موضوع الاغتيالات الاسرائيلية، تعيين الاطار الاشمل والأوسع، الدولي والانساني، الذي يتيح مقاربة الموضوع المطروق من الزاوية الأدق والأصوب. وفي هذا السياق يندرج اقرار الأمم المتحدة لفلسطين كـ«اقليم ذي وضعية دولية»، فضلاً عن اقرار المجتمع الدولي بأسره بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره الذي عبرت عنه القرارات الكثيرة الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. وضمن ذلك يأتي «تأكيد حدود حق تقرير المصير كما اقرها كل من مجلس الامن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة عند الاشارة الى الاراضي التي احتلتها اسرائيل منذ سنة 1967 أي الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس وقطاع غزة»، على ما تشدد دباس في أكثر من موضع في الورقة. كما تستطرد دباس في تعداد المحمولات الموضوعية المتصلة عضوياً بحق تقرير المصير والتي تنطوي على:
أولاً الاعتراف بحق استخدام القوة في الدفاع عن النفس ضمن حدود القانون الدولي والانساني.
ثانياً الحق في احترام وحدة وتكامل الأراضي تحت الاحتلال.
ثالثاً واجب كل دولة في الامتناع عن عن أي اجراء قسري يحرم الشعوب من الحق في تقرير المصير. وهذا جميعاً ما لم تلتزم به دولة الاحتلال الاسرائيلي أو رعاتها الدوليين من قريب أو من بعيد. والشواهد الوحشية على ذلك أكثر من أن تحصى وتعد.

العنف كنتيجة للاحتلال
وفيما تؤكد الباحثة ان وضعية فلسطين كـ«اقليم تحت الاحتلال خاضع للقانون الدولي تعني عدم شرعية الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية التي احتلت سنة 1967 بما في ذلك القدس وفقاً للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، يذهب المقرر الخاص للأمم المتحدة حول أوضاع حقوق الانسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 البروفيسور جون دوغارد الى أن اسرائيل حاولت وخصوصاً بعد تفجيري 11/9/2001 احداث تحول في منظور الصراع، من احتلال غير شرعي الى كونه جزءاً من الحرب على الارهاب. وقد ذكرت الكاتبة ما أورده البروفيسور دوغارد في أحد تقاريره حول هذا الموضوع على النحو الآتي:

في المناخ الدولي الحالي من السهل على اي دولة تبرير اجراءاتها القمعية باعتبارها تندرج في اطار مكافحة الارهاب، وأن تتوقع ان يتفهم ذلك منها. واسرائيل تستغل استغلالاً كاملاً الخوف الدولي من الارهاب، ولكن هذا لن يعالج المشكلة الفلسطينية. اذ يتعين على اسرائيل ان تعالج مسألة الاحتلال وما ينجم عنه من انتهاك لحقوق الانسان والقانون الدولي الانساني، لا أن تتحجج بمبرر الارهاب كأسلوب لصرف الأنظار وكذريعة لعدم التصدي لسبب الدفين للعنف الفلسطيني الا وهو الاحتلال.

هذا ولا تتردد الكاتبة في الدخول في النقاش الشائك الذي يثير جدلاً واسعاً لدى الأوساط السياسية والفكرية في الغرب، نعني موضوع التمييز بين الارهاب والمقاومة. اذ تدعو، على لسان البروفيسور دوغارد عينه مكسبةً حجتها مزيداً من المشروعية الدولية، الى ضرورة التفريق بين «الأعمال الارهابية المجنونة مثل الهجمات التي ينفذها تنظيم القاعدة، والأعمال التي تنفذ في اطار حروب التحرير من الاستعمار أو الفصل العنصري، أو الاحتلال، والتي تعد مؤلمة لكن لا مناص منها، كونها من تداعيات أو عواقب الأوضاع المذكورة».

بحيرات دماء..
وبالعودة الى سياسة الاغتيالات الاسرائيلية، تشدّد الكاتبة على أن هذه الأداة الفتاكة لم تتزامن مع الانتفاضة الثانية على ما يؤكد البعض زوراً. بل هي سياسة ضاربة بجذورها في التاريخ الاسرائيلي. فمن تفجير فندق الملك داود (التابع للانتداب البريطاني) سنة 1946، مروراً باغتيال وسيط الأمم المتحدة الكونت فولك برنادوت في القدس سنة 1948، و13 عضواً من مجموعة أيلول الأسود سنة 1972، وخليل الوزير (أبو جهاد) في تونس سنة 1988، وصولاً الى اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد عباس الموسوي سنة 1992 وأمين عام حركة الجهاد الاسلامي فتحي الشقاقي سنة 1995، واحد قادة حركة حماس صلاح شحادة سنة 2002، والشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي سنة 2004، وغيرها الكثير من الاغتيالات التي طاولت رموز الشعب الفلسطيني المدنية والعسكرية سواء بسواء، والتي يحتاج توثيقها الى جهد جبار وعمل جماعي ضخم. كلها عمليات تؤشر الى المكانة البارزة التي تحتلها هذه السياسة، غير المشروعة وفق كل المواثيق الدولية والانسانية، ضمن الاستراتيجية الاسرائيلية العامة، للقضاء على أسباب قوة الفلسطينيين أينما وجدوا.

وليس بلا دلالة في هذا الاطار ايراد تعريف منظمة العفو الدولية للاعدام خارج نطاق القضاء بأنه «عملية قتل غير قانونية مع سبق الاصرار والترصد يتم تنفيذها بأمر من الحكومة أو بموافقتها. وعمليات القتل خارج نطاق القضاء هي عمليات قتل يمكن الافتراض بشكل معقول انها نتيجة سياسة على اي مستوى حكومي تستهدف تصفية أشخاص محددين كبديل للقبض عليهم وتقديمهم الى العدالة، وترتكب عمليات القتل هذه خارج أي اطار قضائي».

وشهدت الفترة ما بين 2000 – 2007، وفقاً لتقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة دوغارد، «مقتل أكثر من 500 شخص نتيجة الاستهداف بالاغتيال. ويتكشف أمامنا، من جهة ثانية، من خلال الاطلاع على احصائيات مؤسسة التضامن الدولي لحقوق الانسان، أن عدد الشهداء الذين سقطوا من جراء عمليات قوات الاحتلال الاسرائيلي منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في 28 أيلول عام 2000 وحتى نهاية أيلول من العام 2010 يبلغ نحو 7407 شهداء، من بينهم 1859 طفلاً تقل أعمارهم عن 18 عاماً، و476 امرأة. وهي كلها معطيات لا تحتاج الى من يفك رموزها كي يتكشف مدى بلاغة الوحشية الكامنة ورائها. هي أرقام واضحة بذاتها.

في الختام، ليس من المبالغة في شيء القول ان سياسة الاغتيالات الاسرائيلية شكلت على امتداد عمر الكيان الصهيوني «سلسلة ظهر» الاحتلال وأداته الأمضى للفتك بالفلسطينيين وقياداتهم السياسية والعسكرية. وظلت هذه الاستراتيجية قائمة وفعالة على الرغم من كل محاولات المقاومة الفلسطينية عبر كفاحها المسلح المديد خلق شيء من «توازن القتل» مع ترسانة عسكرية إسرائيلية هي من بين الأقوى في العالم. وعلى الرغم أيضاً من كل بيانات الاستنكار والتنديد الدولية التي كانت مفاعيلها العملية تتبخر حتى قبل أن يجف الحبر الذي
خطت به! وهي تعكس، أولاً وأساساً، الاختلال الفادح في موازين القوى العربية – الدولية، والعجز العربي المزمن عن إحداث أي تعديل طفيف عليها.

قصارى القول أن لا مناص من تحقيق انجاز ما، عربي بطبيعة الحال، على مستوى الصراع العربي – الصهيوني يرجع للفلسطينيين بعضاً من حقوقهم التاريخية، حتى لا نضطر في خاتمة مطافنا التاعس الى تشييد «حائط مبكى» في كل دولة عربية. حائط نروح نزوره مع كل ذكرى للنكبة، ونتغنى قبالته بأمجادنا التي تحفر عميقاً في التاريخ انما لا يرى أثر لها في حاضرنا. أي أثر مهما كان «ميكروسكوبياً»! وحتى لا يأتي يوم نضطر فيه الى تصديق (بملء اراداتنا!) الخرافة الصهيونية القائلة أن فلسطين كانت على امتداد تاريخها «ارض بلا شعب، لشعب بلا أرض». وأن ما يحصل ليس أكثر من عودة «السكان الأصليين» الى أرضهم.
هذا كله طبعاً من دون أن نأتي على أي ذكر لـ«مستقبلنا» الذي يكتنفه الكثير من الغموض، وما هو اكثر من ذلك من القلق.

السابق
دراسة لـ”أشد” حول كيفية اختيار الفلسطيني لاختصاصه الجامعي
التالي
“الاعتدال” و”الممانعة” امام التغيير