“الاعتدال” و”الممانعة” امام التغيير

لم يعد صدى الثورات العربية يطرب العديد من السامعين في بيروت، كان الشعور بالانتشاء سمة هؤلاء وهم يشهدون نجاحات الشعبين التونسي والمصري في تغيير معادلة السلطة، وفتح افاق التغيير الديمقراطي في هذين البلدين. لقد بادر العديد من اللبنانيين الى التعبير عن هذا التضامن، فعكس في الكثير من مظاهره اختراقا لثنائية 8 و14 اذار، وتلمس الكثيرون فرصة تاريخية لربيع عربي قادم على فرس الديمقراطية الذي انتظروه طويلا.

في المشهد العربي وفي اشراقاته المصرية والتونسية، تسابق السياسيون اللبنانيون بالتبشير بعصر جديد، ولكن عبر تطويع دينامية التغيير وحقائقها لمنطقهم السياسي وحساباتهم، من دون بذل اي جهد لقراءة مايجري باعتباره درسا يجب التعلم منه وأخذ العبر. اذ لم يستطع متبنو "خطاب الممانعة" من استيعاب حقيقة ان من الممكن ان يقوم شعب عربي على حاكمه من دون ان يضع في سلم اولوياته محاسبة هذا الحاكم على علاقاته مع العدو. وربما ذهب البعض الى الاعتقاد بأن اول ما ستقوم به مصر بعد ثورة 25 يناير هو اسقاط معاهدة كمب ديفيد، وطرد السفير الاسرائيلي من مصر. لم يحصل هذا او ذاك، كما لم يبادر اي حزب او مجموعة او تيار مصري بالتظاهر او الاعتصام امام السفارة الاسرائيلية، او سوى ذلك من خطوات تبدو منطقية في سياق النظرة التي ترى ان الموقف من اسرائيل، هو معيار موقف الشعوب العربية من حكامها وانظمتها.

ازاء الاستغراق في هذه النظرة ومحاولة قراءة "ربيع العرب" على اساسها، احدث انتقال العدوى الى سورية ارباكا لدى اصحاب هذه النظرة، فبعدما كانت ثورتا مصر وتونس، عنوانين لعصر عربي جديد يحاكي تجربة الثورة الاسلامية في ايران ومشروع الممانعة في المنطقة، بدأ ينقلب الكلام وتتراجع لهجة الترحيب لحساب خطاب التشكيك والاتهام. خلاصته أن مايجري من تغيير ليس سوى تعديل استعماري طفيف في واجهة الحكم في هذه الدول. ويمكن توقيت هذا التبدل في المواقف، اثرالاحتجاجات الاخيرة في سورية، التي اعادت تجديد اسئلة الحرية والديمقراطية والاصلاح. وهي تحديات عزف النظام في عن مواجهتها رغم اقراره باحقيتها منذ اكثر من عقد من الزمن.

وبعد ان اعلنت ايران ان ما يجري في سورية ضد النظام هو استهداف للمقاومة، بدأ سيل المواقف لدى حلفائها في لبنان، يصف ما يجرى على انه مؤامرة اميركية-اسرائيلية لمحاسبة النظام في سورية. وهو موقف لا يمكن فصل اثاره عن نجاح محاولات
خنق الثورة البحرينية. فالشعب البحريني الذي يدفع ثمن التدخل العسكري الخليجي ضد مطالبه المشروعة، فاقم من ازمته، الازدواجية في الموقف الايراني من ثورات العرب. فوفر مناخا اضافيا لقمع هذه الثورة. من خلال اظهار خصوصية الاهتمام السياسي والاعلامي الايراني في البحرين، بما لا يقاس مع اهتمامها باحتجاجات بقية الشعوب العربية، فضلا عن الموقف من سورية.

ايران هنا ليست في موقع مغاير للمملكة السعودية، التي تقف في مقدمة القوى المضادة التي تقاوم هذا التغيير وفي قيادة الجبهة المضادة لانتشار "الربيع العربي" الى الدول المجاورة لها. فكما ان هذا "الربيع" يهدد الانظمة الاحادية، يقوض في المقابل معادلة تنائية دول الممانعة والاعتدال، التي وفرت لايران معبرا الى المنطقة العربية.اماالتهديد بالحروب الطائفية وبالتجزئة وبالسلفية ليس جديدا في قاموس الانظمة السياسية العربية، ومحاولة الصاق هذا الخطر بحراك الشعوب، يخفي حقيقة ان العديد من هذه الانظمة استقوى لعقود على شعوبه وتحاشى الاصلاح السياسي، بقوة التهديد بالفتنة، بعد ان استنفذ مقولات مواجهة الاحتلال او الاستعمار.

الارباك الذي تعانيه القوى السياسية اللبنانية اليوم اتجاه ما يجري من ثورات، يكشف ان هناك عجزا عن مقاربة الانتفاضات العربية بغير نظرة الانظمة نفسها. ف"الثوار اللبنانيون" على ضفتي الانقسام يرددون ما تقوله الانظمة السياسية الممانعة والمعتدلة، ولا يبدو انهم قادرون اليوم على تلمس نبض الشعوب التي رغم سطوة الاستبداد تتلمس بثقة وتواضع طريق التغييرالديمقراطي الشاق.

السابق
القتل الصهيوني والقانون الدولي
التالي
الجامعيون الفلسطينيون لا يتميّزون