الأمل أفضل من الحقيقة!!

إن الثورات في الشرق الأوسط، والاضطرابات التي تمزق دولاً مثل ساحل العاج، والسخط المحتدم في اليونان وإيرلندا وبريطانيا، والنزاعات العمالية في ولايات مثل ويسكونسن وأوهايو، جميعها تنذر بانهيار ما يسمى بنظام العولمة. إنها تنذر بعالم تصبح فيه الموارد الحيوية، بما في ذلك الغذاء والماء، وفرص العمل والأمن، أشياء نادرة يصعب الحصول عليها، وتنذر أيضاً بالبؤس المتزايد بين صفوف مئات الملايين من الناس، الذين يجدون أنفسهم محاصرين في الدول الفاشلة، يعانون من تصاعد العنف والفقر المدقع، كما تنذر أيضاً بزيادة الضوابط الصارمة على نحو متزايد والقوة المستخدمة لحماية شركات النخبة التي ترسم نهاية العالم.

يتوجب علينا بسرعة تبني واحتضان أخلاقيات إصلاحية جديدة لحماية نظامنا الإيكولوجي وخاصة المناخ، ودعم حركات المصلحين الاجتماعيين التي تطالب بموارد الدولة لتوفير الرفاهية لجميع المواطنين، وأن توظف قوة الدولة لمنع نهب المواطنين من قبل النخبة الحاكمة للشركات، وأن ننظر إلى شركات الرأسماليين الذين انتهزوا فرصة السيطرة على أموالنا وطعامنا والطاقة والصحة والتعليم ونظام الرعاية الصحية وحكومتنا على أنهم أعداء مهزومون يجب أن يختفوا من الوجود.

لقد أصبحت قضايا مثل الغذاء الكافي والمياه النظيفة والأمن المركزي، سلفاً، بعيدة عن متناول ربما نصف سكان العالم، فقد ارتفعت في الآونة الأخيرة أسعار المواد الغذائية بنسبة (61%) عالمياً منذ كانون الأول عام (2008)، وذلك وفقاً لإحصائيات صندوق النقد الدولي، وارتفع سعر القمح إلى أكثر من ضعفين في الأشهر الثمانية الماضية إلى حوالي (8.56) دولاراً للبوشل، وأصبح أحدنا ينفق نصف دخله أو أكثر لتأمين الغذاء اللازم، وبالتالي فإن ارتفاع الأسعار بهذا الحجم يجلب معه سوء التغذية والمجاعة. وقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية في الولايات المتحدة على مدى الأشهر الثلاثة الماضية بشكل ملحوظ وبمعدل سنوي بلغ خمسة في المئة، وهناك نحو أربعين مليون فقير في الولايات المتحدة يكرسون (35%) من دخلهم بعد خصم الضرائب لدفع ثمن المواد الغذائية.

ومع ارتفاع تكلفة الوقود وتغير المناخ الذي يعرقل الإنتاج الزراعي، وزيادة عدد السكان وتضخم البطالة، نجد أنفسنا وسط المزيد من الاضطرابات الداخلية والعالمية، ناهيك عن أعمال الشغب والاحتجاجات السياسية التي لا مفر منها، لكن ذلك لا يعني بالضرورة مزيداً من الديمقراطية.
إن رفض جميع مؤسساتنا الليبرالية بما في ذلك الصحافة والجامعات والحزب الديمقراطي الطعن في الفرضيات الخيالية التي تقول بأن السوق الاقتصادية يجب أن تحدد سلوك الإنسان الذي يسمح لشركات الاستثمار بأن تستمر في اعتدائها، بما في ذلك المضاربة على السلع لرفع أسعار المواد الغذائية، ويسمح لشركات الفحم والنفط والغاز الطبيعي بإحباط مشاريع الطاقة البديلة، ويسمح للأعمال الزراعية بأن تحول الذرة وفول الصويا لإنتاج الإيثانول وتراجع أنظمة الزراعة المحلية والدائمة، وتسمح للصناعات الحربية باستنزاف نصف مجموع نفقات الدولة وتوليد تريليونات من العجز، والاستفادة من النزاعات في الشرق الأوسط التي لا فرصة لدينا للفوز بها، كما يسمح نظام السوق هذا للشركات بالتهرب من الضوابط الأساسية والأنظمة التي تدعم مكانة الإقطاعية الجديدة العالمية، ويصبح المسؤولون عن الإمدادات الغذائية أو حياتنا الاجتماعية والسياسية، إضافة إلى رعاية الأطفال المرضى، رأسماليي الشركات والمضاربين في /وول ستريت/.
كل هذا لن يتغير حتى ننقلب على الحزب الديمقراطي، ونتنكر للمعتقدات التقليدية في جامعاتنا وفي الصحافة التي تدعم من قبل المدافعين عن الشركات التي تدعم معارضتنا لبناء الدولة من الأساس، وذلك لن يكون سهلاً، وسوف يستغرق وقتاً، وسيتطلب منا أن نقبل حالة المنبوذين اجتماعياً وسياسياً، خاصة أن جماعات متطرفة من مؤسساتنا السياسية تحصل على السلطة بشكل ثابت، وليس لدى شركات الدولة ما تقدمه لليسار أو اليمين سوى الخوف، حيث يستخدم الخوف لتحويل السكان إلى متواطئين سلبيين، وطالما نحن خائفون، فلن يتغير أي شيء.
لا ينبغي لنا أن نأخذ كلاً من /فريدريك فون هايك/ و/ميلتون فريدمان/ وهما من ضمن المهندسين الرئيسيين للرأسمالية غير المنظمة، على محمل الجد، لكن أعاجيب دعاية الشركات وتمويلها، حوّلت هذه الشخصيات إلى شيء مبجل في جامعاتنا ومراكز البحوث والصحافة والهيئات التشريعية والمحاكم ومجالس إدارة الشركات، ومازلنا نحتمل نفاق نظرياتهم الاقتصادية حتى لو قامت /وول ستريت/ بإفراغ وزارة الخزانة الأمريكية، وشاركت مرة أخرى في المضاربات التي بخرت حوالي (40) تريليوناً من الثروة العالمية.

لقد تعلمنا من قبل جميع نظم المعلومات أنها تقدس ترديد شعار أن السوق الاقتصادية تُعلم أكثر منّا. لذلك من غير المهم، كما أشار الكتّاب أمثال /جون رالستون سول/، أن كل واحد من وعود العولمة قد تبين أنه كذبة، ولا يهم إذا أصبح التفاوت الاقتصادي أكثر سوءاً، وتركزت معظم الثروات في أيدي فئة قليلة، ولا يهم إذا اختفت الطبقة الوسطى-القلب النابض للديمقراطية-وإذا انخفضت حقوق وأجور الطبقة العاملة عندما تزول قوانين العمل، ولا يهم إذا استخدمت الشركات أسلوب تدمير الحواجز التجارية كآلية للتهرب من الضرائب الواسعة، ولا يهم إذا استغلت الشركات وقتلت النظام الإيكولوجي الذي يعتمد عليه الجنس البشري من أجل البقاء على قيد الحياة.

إن هدف شركات الدولة ليس الإطعام والإكساء أو إيجاد البيوت للجماهير، ولكن لتحويل كل القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثروة إلى أيدي النخبة من أصحاب الشركات الصغيرة والكبيرة، حيث تحقق نخبة الشركات أهدافها من ربح أكبر عن طريق إضعاف وتفكيك الوكالات الحكومية والاستيلاء أو تدمير المؤسسات العامة.

لذلك، فإن جيوش المرتزقة والاستعانة بمصادر خارجية في كل جانب من جوانب العمل الحكومي وتدمير النقابات العمالية والتراجع في التعليم والتدريب المهني وخفض الخدمات الاجتماعية أكثر من أي وقت مضى، يتركنا عبيداً لأهواء هذه الشركات، إضافةً إلى أن إقحام الشركات في المجال العام يدمر مفهوم الصالح العام ويمحو الخطوط الفاصلة بين المصالح العامة والخاصة، ويخلق عالماً يتم تعريفه حصراً من خلال المصالح الذاتية.

إن الحضارات الغابرة غالباً ما كانت تفضل الأمل على الحقيقة، لأن ذلك يجعل عبء الحياة أخف وطأة في أن يحتمل. والآن عشرات الملايين من الأمريكيين الفقراء قلما يظهرون على شاشات التلفاز، وكذلك مليارات من الفقراء في العالم الذين يتجمعون في الأحياء الفقيرة والمزدحمة، ونحن لا نرى أولئك الذين يموتون بسبب تلوث مياه الشرب أو عدم القدرة على تحمل تكاليف الرعاية الطبية، ولا نرى أولئك الذين يتم طردهم من بيوتهم بسبب الرهن، ولا الأطفال الذين يذهبون إلى الفراش وهم جائعون، وإنما نشغل أنفسنا بأشياء غير معقولة ولا قيمة لها، ونستثمر حياتنا العاطفية في الواقع باحتفالات الرفاهية والثراء.

فالتراجع المستمر في مختلف نواحي الحياة بما في ذلك ضياع الثروة في معظم البلاد في الديون التي لا يمكن السيطرة عليها، أما الأسر، التي انخفضت أجورها على مدى العقود الثلاثة الماضية، فهي تعيش في منازل تمولها قروض الرهن العقاري، وغالباً ما يتعذر سدادها، ويشغلون أوقات فراغهم في بيع الأشياء التي لا يحتاجونها لتأمين متطلبات عيشهم.

إن دعاة العولمة هم الثمرة الطبيعية لهذا العالم القائم على صورة الأميّين ثقافياً، فهم يتحدثون عن النظرية الاقتصادية والسياسية في (كليشات) فارغة، ويختارون الحقائق والبيانات المعزولة ويستخدمونها لفصل الحقائق التاريخية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ويقولون لنا ما يجب أن نعتقد عن أنفسنا، ويؤكدون لنا بأننا استثنائيون كأفراد وأمة، ويزعمون أن جهلنا هو المعرفة بعينها، بالإضافة إلى ذلك يخبروننا بأنه ليس هناك ما يدعو للتفكير في طرق أخرى لتنظيم وإدارة مجتمعنا، وأن طريقتنا في الحياة هي الأفضل، وأن الرأسمالية هي التي جعلت منا "عظماء"، ويطمئنوننا أيضاً بأننا سوف نخلص بالعلم والتكنولوجيا والعقلانية إلى فضاءات أرحب، وأن الإنسانية في تقدم مستمر بلا تردد.

لا شيء من هذا صحيح، إنها الرسالة التي تتحدى الطبيعة البشرية والتاريخ البشري، ولكنها الشيء الذي أضحى العديد منا بحاجة ماسة إليه. وحتى نستيقظ من الخداع الجماعي لأنفسنا، وحتى نقوم بأعمال مستمرة لدعم مجتمعنا، سوف نستمر بالتوجه نحو هوة كارثة تشمل الجميع.
(ترجمة ياسر البشير – البعث)

السابق
الحقيقة والبروباغندا والتلاعب الإعلامي
التالي
القمة القطرية ــ الأميركية .. لقاء ترقبه الدوحة وواشنطن