في مديح الحذاء العربي

أذكر أنّني، حين رأيت بعض العراقيين، في الصورة الشهيرة، بنيسان 2003، يضربون تمثال الرئيس المخلوع صدّام حسين بالأحذية، فرحت كثيرا. وصرخت، أنا إبن الـ19 عاما يومها: سقطت بغداد، سقطت بغداد، سقطت بغداد.
كان فرحا عارما لم أفهمه يومها. وأذكر أنّ والدتي ركضت من المطبخ إلى غرفة الجلوس، ونظرت إلى المشهد، وبدأت دموعها تنهمر على خدّيها، من دون بكاء أو عويل.
كانت دموعها تتمّة ابتساماتي. أيضا لم أفهم يومها هذا التناقض بين فرحي وحزنها. هي الناصرية العروبية، وأنا اليساريّ الهوى، هي الأربعينية، وأنا المراهق.
اليوم ربما فهمت ما جرى. فهي كانت تشيّع عمرا كاملا أضاعته في دعم رجال وأنظمة مثل صدّام حسين. ومثالها الأعلى، جمال عبد الناصر، هو الأب الروحي لمعظم الأنظمة العربية، التي بدأت تتخلّع اليوم.
لم يكن تمثال صدّام حسين يضرب بالأحذية، بل كانت أحلام جيل كامل تصل إلى نهاية مطافها، وكانت دموع أمي بداية شتاء طويل من الأحزان العربية، وكانت المبارزة بين دموعها وابتساماتي بداية سنوات من الحيرة ستنتهي على مشارف آذار 2011.

ثماني سنوات عربية مليئة بالدماء والمحاولات … والأحذية: من “فوضى” العراق إلى انتفاضة استقلال بيروت وربيع دمشق المجهض إلى أيمن نور مصر إلى احتجاجات متفرّقة بين اليمن وبعض الدول المغربية والخليجية. وبين الإحتجاجات المدنية كان هناك حرب تموز التي خاضها “حزب الله” ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان.
وربما كان من أشهر الهتافات التي هتفها اللبنانيون في “انتفاضة الإستقلال” العام 2005: “ما بدنا جمهورية، تحت الجزمة السورية”. وفي هذا الهتاف شعور بالإهانة “الحذائية” من القوات السورية التي كانت مرابضة في لبنان.
والحذاء كان دائما حاضرا في الوجدان العربي، منذ الحذاء الذي به ضرب تمثال صدّام، إلى يوم سقوط الرئيس المصري محمد حسني مبارك، حين رفع متظاهرون أحذيتهم في ميدان التحرير.
فالكاريكاتورات الجريئة، والأدب السياسي المتحرّر نسبيا، والشعر حتى، كان دائما ينشغل بـ”حذاء” ما. قد يكون حذاء رجل الأمن، أو حذاء تضرب به امرأة.

حتى أنّ الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، حين أراد التوجّه إلى مقاتليه، فيما هم ينتصرون على إسرائيل في حرب تموز 2006، في واحدة من أهم المعارك العسكرية في التاريخ الحديث، والتي هي أهمّ المعارك العربية في هذا التاريخ، قال لهم: “أقبّل أقدامكم المنغرسة في الأرض … “.

وفي إحدى الخطب الشهيرة للسيد نصر الله، بعد حرب تموز، قال للشيعة اللبنانيين إنّ خصومهم وأعداءهم يريدون أن يجعلونهم “ماسحي أحذية” لدى اللبنانيين والسيّاح.
كذلك، واستطرادا، من الأغنيات الأكثر شهرة للفنان أحمد قعبور، هي تلك التي اشتهرت خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في نيسان 1996 تقول: “أناديكم، أشدّ على أياديكم، وأبوس الأرض، تحت نعالكم، وأقول أفديكم”.
ولا يمكن نسيان حذاء الشاب العراقي منتظر الزيدي، الذي ضرب به الرئيس الأميركي جورج بوش الثاني، قبيل مغادرته البيت الأبيض. فصار بوش، الذي بدأ رئاسته الولايات المتحدة الأميركية بحذاء عراقي على تمثال صدّام، وأنهاها بحذاء عراقيّ على رأسه، مرتبطا اسمه بحذاء الزيدي.

وفي الخطاب الشعبي العربي، هناك دائما مكان مميّز للحذاء، فيقول المصريون لمن يريدون شتمه إنّه “جزمة”، وفي لبنان يقال إنّ فلانا “ضرب بحذائه” فلانا للدلالة على هزمه. والدبكة اللبنانية قائمة على خبط القدم بالأرض، ويقال: “فلان يضرب بجزمته” في إشارة إلى قوّته. كذلك يقول الشاعر اللبناني وديع سعادة في واحدة من أجمل قصائده إنه لا يعرف أشخاصا سعداء بأحذية قديمة أو مزعجة.
لكنّ الغرب يتعامل مع الحذاء بطريقة مختلفة كليا. فرفع القدمين أمام شخص آخر، في المكاتب، لا يعدّ عيبا حين يكون رافع قدميه متعبا جدا. والحذاء والقدم جزءان من الثقافة الغربية، حيث كرة القدم وبقية الألعاب الرياضية تعتمد على الأقدام والأحذية الرياضية، ومصمّمو الأحذية العالميين يوازون في شهرتهم رجال العلم. وحين ذاع صيت “مايكل جوردان” في كرة السلّة سمّي حذاء رياضيّ باسمه، دلالة على شهرته، وكان من “أغلى” الأحذية الرياضية في العالم لسنوات.
هكذا كان الحذاء العربي حاضرا في المفاصل الرئيسية التي طبعت السنوات الثمانية الأخيرة، من صدّام الى الحرب الإسرائيلية إلى بوش إلى مبارك. كما لو أنّ الأمّة العربية ترفع حذاءها في وجه التاريخ.
جدير بالذكر هنا أنّه تحت عنوان “حرب الأحذية والأرجل” يورد الدكتور خريستو نجم، في كتابه “رمزية القدم والحذاء في الأدب والفنّ”،يقول إن لقب “باشا” يتألف من كلمتين: “با” وتعني بالفارسية أو التركية الحذاء أو الجزمة، وشاه، التي تعني الملك. وقد تم حذف الهاء تخفيفًا. وبحسب نجم، ذكر بعض المؤرخين ذلك بقولهم: كانت إحدى الجواري تتقدم وترفع القدم الشاهانية وتلفّها على رأس الزائر العظيم، وبعد دقيقة أو نصف الدقيقة، تعود الجارية وترفع قدم السلطان عن رأس الزائر وتعيدها إلى حيث كانت على الأرض، وكان هذا تبليغًا للزائر بأن المقابلة قد انتهت. وكل من حظي بهذه النعمة يصبح “باشا”، أي قدم السلطان. هكذا يكون “الباشا” في الذاكرة والمدلول العربيين هو من “تنصّبه” قدم السلطان.
كما أنّه قبل سقوط الرئيس المصري محمد حسني مبارك، راح مصريون غاضبون يرمون بأحذيتهم الشاشة التي كانت تبثّ إخدى خطاباته في ميدان التحرير. كذلك فعل طلاب يمنيون قبل أيام، ضاربينصور الرئيس علي عبد الله صالح، ومثلهم فعل ليبيون في واحدة من التسجيلا المتناقلة على اليوتيوب.

والثلاثاء الفائت كتب الشاعر السوري عمر إدلبي على الفايسبوك إنّ نحو ألفين من شبان ورجال مدينة حمص توجّهوا، بعد مجزرة قتلت 14 منهم على أيدي رجال الأمن، توجهوا إلى تجمع أمني، ورموا رجال الأمن بأحذيتهم، قبل أن يعودوا إلى ساحتهم حفاة.
حفاة الأقدام، ممتلؤو النفوس والكبرياء. إنها العلاقة الدائمة بين الحذاء والعرب، والحماصنة أعلنوا أحذيتهم لغة مع الأمن.
كم هو جميل الحذاء العربي هذه الأيام.

 

السابق
علوش: الجهات التي تتحرك في طرابلس تعمل بتوجيهات تأتيها عبر الحدود
التالي
عون: للإنطلاق من الواقع الداخلي البحت لتشكيل الحكومة بدلاً من إنتظار الخارج