لمصلحة من تشوه صورة الانتفاضات العربية؟

نشرت جريدة «الجابان تايمز The Japan Times» بتاريخ 13 نيسان 2011 ، مقالة بعنوان طريف لشدة غرابته: «عودة الولايات المتحدة إلى العالم العربي». واللافت للنظر أن صاحل المقال باحث عربي تبرع لتقديم صورة نمطية عن الانتفاضات الشعبية العربية تفتقر إلى الحد الأدنى من الموضوعية.

تجدر الإشارة إلى أن عدد المقالات التي تشوه صورة الانتفاضات العربية في الصحف اليابانية الصادرة باللغة الانكليزية تكاد لا تحصى. فالصحافة اليابانية الصادرة باللغة الإنكليزية شديدة الصلة بمراكز الإعلام الغربية، خاصة الأميركية منها. وقد ساهمت في تشكيل رأي عام واسع من اليابانيين الذين يتقنون العربية، وآلاف الباحثين الأجانب الذين يعملون في مراكز الأبحاث اليابانية. وقد أسست لصورة نمطية بالغة السوء عن العالم العربي لكثرة ما تضخه وسائل الإعلام من سلبيات من دون الإشارة إلى بعض الايجابيات، وهي قليلة على كل حال.

فالواقع العربي يعيش مرحلة بالغة السوء. ويكفي للباحث، حتى المنصف، أن ينقل الوقائع العربية إلى الرأي العام العالمي لكي تكون صورة العرب اليوم أقرب إلى السلبية منها إلى الإيجابية. فالقمع، والاستبداد، والوراثة السياسية، والفساد والإفساد، وتبديد الثروات النفطية خارج إطار أي تنمية بشرية أو إنسانية، وتغيب كل أشكال التصنيع، وتهجير مئات الآلاف من أصحاب الكفاءة من العرب، وتهميش القوى الشبابية، وعدم مشاركة المرأة بصورة فاعلة في الحياة السياسية والاقتصادية العربية، وأخيرا قصف الحاكم لشعبه بالطائرات وتهديم المدن بالمدفعية على رؤوس السكان من أجل البقاء في السلطة لعقود إضافية، وكثير غيرها.

لكن ما يثير الاستهجان فعلا أن يشارك باحثون من العرب في تشويه المسار الذي سلكته الانتفاضات العربية التي أسست لمرحلة جديدة بالكامل في الحياة السياسية العربية وأثارت اهتمام العالم كله. والأكثر غرابة أن يرجع باحث عربي تلك الانتفاضات الرائعة إلى الأميركيين بالذات. فهو يعتبر أن الديموقراطية الأميركية كانت مصدر إلهام لقادة الانتفاضات العربية. وأن حكام أميركا، القدامى منهم والجدد، الذين دمروا العراق وما زالوا يدمرون أفغانستان بعد أن قسموا السودان وأطلقوا العنان لإسرائيل لكي تدمر غزة ولبنان هم من المناصرين لتلك الانتفاضات والداعمين لها، والعاملين على إنجاحها.

يعيد الباحث الأسباب المباشرة للانتفاضات العربية إلى الخطاب «التاريخي» االذي ألقاه الرئيس أوباما منذ أكثر من عام في جامعة القاهرة و«صفق» له العرب طويلا. ويزعم أن موجة الحركات المطالبة بالديموقراطية عمت العالم العربي بفضل ذلك الخطاب. وأن غالبية الشعوب العربية تكن الكثير من الود والتقدير للديموقراطية الأميركية. وتوصل إلى استنتاجات تثير السخرية لشدة هزالها. فقد أكد فيها على أن الشعوب العربية تنفست أخيرا «نسائم الحرية» بفضل الدعم الأميركي الذي تحظى به الانتفاضات الشبابية في الدول العربية.

لكن تلك المزاعم لا تصمد أمام أي من الأسئلة البديهية. فهل كان أي من حكام تونس، ومصر واليمن وليبيا من الذين سقطوا وهم الآن عرضة للمحاكمة التي أصر عليها قادة الانتفاضات، أم من هم على أبواب تلك المحاكمة، كانوا معادين لأميركا أو خدموها بإخلاص شديد لأنها سهلت لهم قمع شعوبهم وتكديس ثروات شخصية اسطورية تقدر بعشرات لا بل مئات مليارات الدولارات؟.

وإذا كانت الديموقراطية على الطريقة الأميركية مصدر وحي لقادة الانتفاضات العربية، فلماذا لم تعط ثمارها الطيبة منذ عقود طويلة كانت تسير فيها المجتمعات العربية من سيئ إلى اسوأ حين كانت الإدارة الأميركية حاضرة دوما على امتداد العالم العربي، وتزيد من دعمها بالسلاح والتدريب لأكثر الأنظمة العربية استبدادا، وتساعدها على قمع شعوبها وضرب كل
أشكال الديموقراطية وحقوق الإنسان العربي؟

لقد تناسى الباحث عمدا أن الولايات المتحدة الأميركية هي الحاكم الفعلي وليس قادة العرب لغالبية الدول العربية. وأنها الداعم الأساسي لإسرائيل والمتمتع الرئيسي بالثروات النفطية العربية. وأن مشروع الشرق الأوسط الجديد بصيغته الأميركية ـ الإسرائيلية هو نتاج تحالف إسرائيل مع المحافظين الجدد، وأن الأسلوب المقترح لتنفيذه هو الحروب الأهلية في كل دولة عربية ونشر مقولة «الفوضى الخلاقة»، وتعميم صورة الديموقراطية الغربية، خاصة على الطريقة الأميركية، كأفضل أشكال السلطة الملائمة للعالم العربية بعد انفجار هذا المد الشعبي في كثير من الدول العربية. وتوهم الباحثون، من العرب وغير العرب، أن تفجير المجتمعات العربية يساعد على إعادة تشكلها وفق صيغ متعددة منها قيام دويلات جديدة على الطريقة السودانية، أو اشكال من الحكم الذاتي كالعراق والصحراء الغربية، أو الفدرالية والكونفدرالية واللامركزية الإدارية وغيرها. وذلك بهدف تفكيكها ثم إعادة تركيبها بما يتلاءم مع طبيعة المشروع الصهيوني من جهة، ويطيل أمد السيطرة الأميركية على الثروات العربية لعقود إضافية، بمشاركة من العرب أنفسهم.

دلت سياسة الأميركيين تجاه فلسطين ولبنان والسودان والعراق وأفغانستان وغيرها أن الإدارة الأميركية لا تقيم وزنا لأنظمة ملحقة بها، ولقادة عرب معادين لشعوبهم ولا يستطيعون البقاء في السلطة إلا بدعم منها. ومع أنها لا تبالي كثيرا بإسقاط أولئك القادة عبر انقلابات عسكرية أو من خلال انتفاضات شعبية عارمة، فهي قلقة جدا وتمارس نشاطا يوميا محموما لحماية المصالح الأميركية إلى جانب ضمان أمن إسرائيل ومساندتها لتنفيذ مشروعها الاستيطاني بين الفرات والنيل. وهي تروج عبر وسائل الإعلام الأميركية والمثقفين الملحقين بها، من العرب وغير العرب، أن الانتفاضات العربية هي نتاج الديموقراطية الأميركية. فقد تربى قادة الانتفاضات العربية على مبادئ وقيم ومثل الديموقراطية الغربية بجناحيها الأميركي والأوروبي، وبالتالي، لن يكون بمقدورهم الخروج عن مسار الديموقراطية الغربية لأنها «الأرقى» على المستوى الكوني. لكن أولئك القادة من الشباب العربي المتنور بثقافة ديموقراطية ذات أبعاد كونية لا غربية فحسب، أسقطوا قادة عرباً كانوا على علاقات شديدة التبعية بالسياسة الأميركية وقدموا تسهيلات لا حصر لها للمشروع الصهيوني. وهم الان أمام اختبار حقيقي لفك الارتباط التبعي مع الأميركيين، فكرا وممارسة. ومن أولى واجبات المثقفين العرب مساعدة قادة تلك الانتفاضات الناجحة على إطلاق مشروع نهضوي عربي جديد، بمقولات عربية، ولمصلحة الشعوب العربية أولا.

ختاما، تشجع الدول الديموقراطية الغربية، بجناحيها الأوروبي والأميركي، بصورة لفظية فقط قيام أنظمة ديموقراطية في العالم العربي. يكفي التذكير بأن القادة الذين اسقطوا تحت ضغط الانتفاضات الشبابية العربية هم من أكبر اصدقاء الولايات المتحدة والغرب الأوروبي.

وكانت لديهم صلات وثيقة بهم لأنهم قمعوا شعوبهم أولا وأقاموا علاقات وثيقة مع إسرائيل بصورة علانية، وبددوا الموارد الطبيعية لبلدانهم خارج كل أشكال التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة. وقد رحلوا حاملين معهم عشرات أو مئات مليارات الدولارات تاركين شعوبهم، خاصة الشباب منهم، يعانون مشكلات الجوع، والفقر، والبطالة، والأمية، وغيرها من الآفات الاجتماعية.

تعيش المنطقة العربية بكاملها مرحلة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ومن المحتمل أن تبادر إسرائيل إلى استغلال هذه الظروف لتفجير أكثر من بلد في المشرق العربي في إطار توسيع مشروعها الإستيطاني من جهة، وبناء االشرق الأوسط الجديد الذي تحدث عنه شمعون بيريز في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه منذ أكثر من عشرين عاما.

على جانب آخر، ما زالت تجربة الديموقراطية التوافقية تتعثر في لبنان لأسباب ذاتية وموضوعية. والمثقفون اللبنانيون مدعوون لإنتاج مقولات نظرية جديدة لديمقراطية فاعلة بخصائص لبنانية تستطيع الحفاظ على العيش المشترك، وتؤمن التفاعل الجيد بين القوى الاجتماعية. وللنخب الاقتصادية والاجتماعية المتنورة دور أساسي في تنبيه رجال المال والأعمال في لبنان إلى مخاطر السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تمارس الآن على الساحة اللبنانية.

لكن من واجبهم إنتاج مقولات نظرية جديدة لديمقراطية فاعلة بخصائص لبنانية تستطيع الحفاظ على العيش المشترك، وتؤمن بشكل التفاعل الجيد بين القوى الاجتماعية.

وللنخب الاقتصادية والاجتماعية المتنورة دور أساسي في تنبيه رجال المال والأعمال في لبنان إلى مخاطر السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تمارس الآن على الساحة اللبنانية.

السابق
رحمة: الراعي صاحب أداء خاص..والتغيير سمح له بالتقاط الفرصة
التالي
“حياتي بين بيئتي وغذائي” في الراهبات الانطونيات- النبطية