حتى المساء

ليس الموارنة في أحسن حال. أفقهم السياسي ينسد شيئا فشيئا. وقلقهم المصيري يزداد يوما بعد يوم. لم يعد لبنان ملاذهم الآمن، ولن يظل العالم العربي محطتهم الهادئة. كان يمكن ان يكونوا من صناع الثورة العربية الكبرى وروادها، كما كانوا في مطلع القرن الماضي من صناع النهضة العربية، التي تتجدد هذه الايام. فإذا هم اليوم من الخوارج، وربما صاروا غدا من الضحايا. ولا يمكن أياً منهم ان يخفي خشيته من ذلك المد الليبرالي الذي يجتاح المنطقة العربية ويصل أخيرا الى سوريا، الحصن الماروني الاخير.

النظام الطائفي الذي بادر بعض الشبان والشابات من الجيل الجديد الى المطالبة بإسقاطه مؤخرا، هو صنيعة الموارنة ومصدر أمنهم واطمئناهم الدائم. الاحتجاج المكبوت كان وسيبقى موجهاً ضد تلك الطائفة التي أنتجته وحفظته، ثم تركته للمسلمين لكي يتولوا مهمة تشويهه وتحويله الى مسخ عجيب، والى منصة دائمة للفتنة المذهبية. لكن اللاوعي العام سيظل يعتبر الموارنة مسؤولين عن ولادة ذلك المسخ، وعن رعايته وبقائه صامدا وسط الانظمة العربية المتهالكة التي استمد منها معظم عناصر قوّته.

ولعل الموارنة يدركون أكثر من سواهم من الطوائف اللبنانية انه اذا حصل التغيير الجذري في سوريا، وافتتح السوريون سيرتهم الديموقراطية، فإن النظام اللبناني سيتهاوى بسرعة فائقة مثل هيكل ورقي ومن دون الحاجة الى تظاهرات في شوارع بيروت وصيدا وطرابلس.. ولن يبقى أمام الموارنة سوى الاسف على ذلك الحليف السوري الخفي والقوي الذي أمدهم بأسباب الحياة والبقاء طوال أربعة عقود مضت، وساهم بالتالي في تثبيت دعائم ذلك النظام وفي منعها من الانهيار.

لا يمكن تصنيف اللقاء الماروني المقرر اليوم في بكركي، مناسبة لمراجعة تلك التجربة، ولا للبحث عن مخرج ملائم من ذلك الحلف التاريخي العميق مع دمشق الذي سيكون تفككه بمثابة صدمة كبرى للموارنة في غالبيتهم الساحقة.. أكثر مما سيكون صدمة مدوية بالنسبة الى الشيعة اللبنانيين الذين يتوقع أن تعود أوضاعهم في لبنان أربعين سنة الى الوراء، أي الى بدايات مساعيهم الحثيثة للانخراط في النظام اللبناني من بوابة المعارضة له.

ولا يمكن أن يكون اللقاء فرصة للبحث عن بدائل. فقد انتهى الوقت الذي كان متاحا لتغيير النظام وتطويره بطريقة تسمح للموارنة بالزعم انهم رواد الجمهورية اللبنانية الثانية المهددة بالفتنة المذهبية بين السنة والشيعة. الكنيسة المارونية يمكن أن تجمع أبناءها على صلح عشائري، لكنها لا يمكن أن تؤسس لخيار سياسي بين أمراء حرب خسرها الموارنة وما زالوا يدفعون ثمنها باهظا.

لان الفكرة المارونية ضاعت، فالمصالحة التي يمكن ان تتم اليوم في بكركي لن تصمد على الأرجح حتى موعد نشرات الاخبار المسائية على التلفزيون. ما يفرق بين الموارنة أبسط بكثير مما يفرق بين السنة والشيعة، لكنه أخطر بكثير مما يمكن أي بطريرك أو بابا مهتم بمستقبل مسيحيي الشرق أن يبعده عن تلك الطائفة.

السابق
علامَ يتكئ بري ليبرهن على ولادة “الجبهة الوطنية”؟ وهل ينجح؟
التالي
الانوار :ميقاتي في مؤتمر تكوين السلطة: لا نريد أن تكون الحكومة مشكلة اضافية